قد يرى البعض أن ما أكتبه الآن تضييع الوقت فيما لا فائدة منه ولا عمل ينبنى عليه، وخاصة أن جماعة الإخوان قد أكدت فى قرار مجلسها الشورى على دعم ذات القرار المتخذ مسبقا بعدم ترشيح أحد أفرادها للرئاسة، ولن أذهب بطموحاتى بعيدا بأن يكون هذا المقال وشبيهاته محاولة لإعادة طرح الموضوع مرة أخرى للنقاش داخل أروقة الجماعة وبالتالى ربما يكون القرار فى اتجاه مخالف. وإن كان حدوث ذلك ليس مستحيلا كما أنه ليس عيبا فى حق الجماعة إن فعلته، ولكن دعنى لا أسرف فى التفكير فى هذه الزاوية لذا فان طرحى للمقال حتى إن لم يحقق هذه الغاية فلا أقل أن يكون محاولة لتوسيع مداركنا جميعا بالاستماع لأفكار وأفكار مخالفة تثرى ثقافتنا وترسخ آداب الحوار لدينا وترسم آليات ووسائل لاتخاذ القرار بشكل صحيح. ومن الواجب أيضا فى البداية أن أنقل عن الدكتور محمد مرسى فى إحدى حواراته مع يسرى فودة، والذى قال فيه ردا على سؤال هل يمكن لحزب العدالة والحرية تغيير نسبة التقدم للترشح فى مجلس الشعب؟، فأجابه بالنص قائلاً :" الجماعة اتخذت هذا القرار وليس للحزب وجود قانونى، فهذه النسبة تعبر عن الجماعة، عندما يكون للحزب وجود قانونى ويرى الحزب مؤسسته أن ما اتخذ من قرار سابق وافٍ بالنسبة له فى حركته فبها ونعمت، وإن كانت مختلفة عن ذلك يدرس الحزب أمره ويشوف". هذا كلام جيد، وأراه ينسحب أيضا على قرار عدم دعم مرشحا للجماعة فى انتخابات الرئاسة، بما يعطى للكلمات التالية شيئا من الجدوى والأهمية. ينبغى ابتداء أن نجيب عن سؤال مهم، وهو لماذا أخذت الجماعة قرارها بالتنازل عن حق مشروع لها بتقديم مرشح للرئاسة؟ فى محاولة لاستقراء إجابة هذا السؤال ربما يكون مطروحا الأسئلة التالية، هل اتخذت الجماعة هذا القرار انطلاقا من مصلحة وطنية فى أثناء الثورة ليكون داعما لها ومنعا لمخاوف داخلية وخارجية قد تعيق تقدم الثورة ونجاحها، وهل كان الواقع العالمى سيرفض ويقاوم بشدة وصول إخوانى لرئاسة مصر، كجزء من التخوف الموجود من الإسلاميين وحالة الإسلاموفوبيا، بما ربما يضع مصر فى عزلة دولية. ثالثا، هل كانت مخاوف داخلية لدى الكثير من أبناء مصر تجاه الإخوان كتراكم لثقافات وقناعات ظل النظام السابق يزرعها على مدار سنوات، وترسخت هذه القناعات فى عقلية الشعب المصرى أو حتى فى تفكيره اللاواعى. هل حقيقة وضع الإخوان الداخلى لم يصل بعد للقدرة على القيام بهذه المهمة ولا زال الإخوان فى حاجة للوقت حتى يستطيعوا القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وهل الوضع الحالى يحتاج لشخصية توافقية ولتضامن كل الجهود الوطنية المخلصة للنهوض بمصر من جديد ولن يستطيع الإخوان بمفردهم القيام بهذا الدور، أم إن هذا الامر لم يحن وقته، والواجب الآن التركيز بالاضافة للعمل مع المجتمع على المجالس التشريعية والمحلية كخطوة للتدريب واكتساب ثقة الشعب، وقد يكون مطروحا فى الوقت الراهن المشاركة فى الحكومة بمجموعة من الوزراء أو حتى رئيس للوزراء، ويكون أمر الرئاسة مؤجلا للدورة التالية بعد أربع سنوات. ربما تكون هذه مجموعة من النقاط التى بنت عليها الجماعة قرارها، وقبل أن نناقشها يجب أن نتفق فى البداية على أن تغيير الجماعة لقرارها ليس عيبا، وإن كانت الفتوى الشرعية تتغير بتغير الظروف والزمان والمكان فمن باب أولى ينطبق ذلك على الفتوى السياسية، وليس قرار الجماعة قرآنا منزلا حتى لا يتغير، بل حتى آيات القرآن كانت تنسخ لفظا أو حكما لتدريج بعض الأحكام الشرعية كمثال تدرج تحريم الخمر كما هو معروف. ويمكن مناقشة النقاط سالفة الذكر كما يلي: كما اتخذت الجماعة قرارها الأول بأنها لن تقدم مرشحا للرئاسة تغليبا للمصلحة العامة لمصر، فذات المصلحة العامة هى التى تقتضى الآن أن تدعم الجماعة مرشحا كأبو الفتوح فى ظل غياب مرشح حتى الآن يعبر عن هوية الشعب المصرى الحقيقية، ومتصفا بأكبر قدر من المواصفات المطلوبة لرئيس مصر فى المرحلة الحالية، والتى تشمل بجوار المواصفات الشخصية المواصفات الفكرية والتركيبة الثقافية، والهوية الوجدانية؛ التى تتسق مع حياة المواطن المصرى البسيط، وتتعايش عن قرب مع واقع مصر، وآلامها، وأحلامها. أما نقطة الخوف من الموقف الخارجى والدولى، ربما يكون مبالغا فيه وخاصة أنه بالفعل ظهرت مواقف لدول غربية تبدى مرونة أكبر فى قبولها لوصول إسلاميين والإخوان تحديدا للحكم، كم جاء فى بعض تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون التى ألمحت ان الإدارة الأمريكية لا تعارض وصول الإخوان للحكم، ويمكن تفنيد أكثر من 50% من مخاوف الخارج بداية قبل اجراء الانتخابات ذاتها من خلال البرنامج الانتخابى للمرشح فضلا عن الحوارات الإعلامية المختلفة والتواصل المباشر والغير مباشر، وبانتهاء شهرين من عمر مدة رئاسة الرئيس الإسلامى—حال اختاره الشعب—ستكون أكثر من 80 % من المخاوف قد بددت تماما من خلال الممارسات الفعلية. أما بخصوص المخاوف الداخلية، فهى مخاوف ليست بالحجم الذى تصور به ولا أدل على ذلك من حصول الإخوان على أغلبية مقاعد مجلس الشعب، وإن كان هناك من رواسب نقر بها النظام السابق فى أذهان البعض فإنها فى الغالب لن تتغير بمرور الوقت ولا حتى بالممارسة لأنها أشبه بانطباعات أولى تدوم، فتظل الإخوان مثلا متهمة بممارسة العنف ووجود نظام خاص وتنظيم عسكرى رغم أنها لم تدان بتهمة عنف منذ الستينات، وكانت تتهم بأنها متواطئة مع النظام وتعقد معه الصفقات برغم أن قيادات الصف الأول بها ملقاة فى المعتقلات بأحكام عسكرية جائرة. ومناسب أن نقول هنا ما قلناه أيضا عن الموقف الخارجى بأنه أولى أن تواجه هذه المخاوف بالحوار المباشر، والبرنامج الانتخابى الواضح، والممارسة العملية من خلال الوصول للمناصب التنفيذية، وعدم الاكتفاء بحل تلك الاتهامات فى أقوال نظرية وكتابات فكرية. وخاصة أنه فى حال فاز هذا المرشح الذى تدعمه جماعة الإخوان فإنه سيكون فائزا بشرعية أصوات تفوق ال 50% على الأقل من أصوات الشعب المصرى، وسيكون العجب العجاب أن يختار الشعب رئيسا يتخوف من أفكاره أما إن كان الحديث عن مؤسسات الدولة وتعاملها مع مرشح الإخوان إن قدر له النجاح، فبعيدا عن كونها مخاوف غريبة وكأن مرشح الإخوان كائن قد هبط من السماء وليس مصريا، فإن الواقع لا يدعم هذه المخاوف فكثير من الإخوان فعليا يشغلون مناصب إدارية وتنفيذية ولهم مرؤوسين، والسلطة الفعلية لن تكون سلطة شخص أو فكر بل هى دولة مؤوسسات تديرها القدرات والكفاءات، ولا يُظن بأن الجيش المصرى بما يقدمه من نموذج متجدد للوطنية سيقف عائقا أمام اختيار الشعب كما يقارن البعض بما حدث فى الجزائر، بل سيكون ضمانا لانتقال سلمى للسلطة وحارسا لشرعيتها، ولن يكون موقف الجيش المصرى أقل بحال من الأحوال من موقف الجيش التركى الحامى الأول للعلمانية والذى لم يتدخل—على الأقل بشكل مباشر—لمنع وصول حزب له جذور إسلامية كحزب العدالة والتنمية للحكم وللرئاسة. أما عن عدم استعداد الجماعة فعليا لهذه المهمة فى هذه المرحلة بعد سنوات التضييق فقد يكون مبررا موضوعيا، ولكن السؤال من فى القوى الوطنية لديه القدرة الآن على القيام بهذا الدور؟!، وإن كانت أغلب النخب ترى أن الإخوان هم الأكثر تنظيما الآن، بل وجاهزية للمنافسة فى الانتخابات، فمن باب أولى أن تسخر جهودها وجاهزيتها تلك لقيادة المرحلة الصعبة التى تمر بها مصر، فإن كان الاعتراف بالحق وأن الإخوان ليسوا مهيئين بعد لذلك الأمر هو فضيلة، فإن الواجب يقتضى أن يقود الركب أقدرهم ولو بشكل نسبى وإن لم يكن الأقدر بالشكل المطلق. أما الحديث عن شخصية توافقية تقود المرحلة، فمن الواضح للعيان أنه لا شخصية من الأسماء المطروحة حتى الآن للرئاسة تتسم بهذه الصفة، بل إن كثيرين من خارج جماعة الإخوان –قبل من هم بداخلها—قد يرون فى أبو الفتوح مواصفات هذه الشخصية التوافقية التى تصلح لهذه المهمة بحكم أفكاره وتواصلاته المختلفة مع القوى السياسية والمجتمعية، ومحل ترحيب وإجماع لدى الكثيرين منهم. أما الحديث عن تأخير هذا الأمر لدورة قادمة، فمن الواضح أن مهمة الرئيس المقبل لمصر لن تكون مهمة مستحيلة، فمهمته فى أولى خطواته أن ينقل مصر من تحت الصفر إلى مرحلة الصفر، وهى بالتأكيد مهمة صعبة ولكن يمكن تحقيقها إن توفر فى الرئيس إخلاص وكان تحركه بشكل علمى وعملى، مما سيكسب من يتصدر للأمر فى المرحلة الحالية أرضا قد يصعب على من يحاول منافسته لاحقا أن يكتسبها، وحق أصيل للمشروع الإسلامى إن كان يحاول ترويج فكرته وكسب مؤيدين لها أن يسعى بجديه لشغل هذا المكان فى هذه المرحلة. وإن كان الإخوان يفكرون فى منصب رئيس الوزراء فى ظل دولة برلمانية كما هو مقترح فى برنامج حزب الحرية والعدالة، فإن مهمة الرئيس لن تكون بصعوبة مهمة رئيس الوزراء، ولكنها ستكون داعما قويا له فى حال كانت القناعات الفكرية للرئيس ورئيس الوزراء متقاربة، الأمر الذى لن يتحقق فى ظل وجود رئيس بمرجعية وأيدولوجية مختلفة. وبالتأكيد إن قامت الجماعة بتغيير قرارها، فإن لذلك الأمر سلبياته على الصورة العامة للجماعة حيث سيعتبر الكثيرون هذا نكوصا على وعدها، وهو الأمر الذى يستحق فعلا أن يقدر بقدره كون الجماعة تمثل مشروعا إسلاميا، وما ستوصف به من كذب أو تلون أوخداع او مراوغة سينسحب ولو بشكل لا شعورى على المشروع الإسلامى بشكل عام، وهو الامر الذى يستحق من الجماعة كثير تفكير فى كيفية الخروج منه، ومعالجته، وجعل قرارها بتغيير موقفها منطلقا بالفعل من حاجة حقيقية للشعب المصرى، وملبيا لمصلحة عليا هى مصلحة الوطن. أخيرا ربما على الجماعة أن تنفض مخاوفها من فشل التجربة، فقد بلغ عمر جماعة الإخوان الآن ثمانين عاما أو يزيد من التجارب والممارسات والخبرات والأخطاء والتنوع ما يؤهلها أن تخوض هذه التجربة بشرف، متوكلة على ربها ومستعينة بحسن تنظيمها وكفاءة افرادها ومستقوية بشرعية شعبية لن تقل عن 50% من الشعب المصرى—إن فاز مرشحها—كل ذلك كفيل إن شاء الله أن تنجح تجربتها، وان تخطو قفزة للامام بمشروعها الإسلامى الحضاري، والذى نؤمن أنه سيصنع حضارة مصرنا ونهضتها.