عندما تم إطلاق غازات مسيلة للدموع على المتظاهرين المصريين في ميدان التحرير وشارع محمد محمود في الموجة الثانية للثورة المصرية، وكانت هذه القنابل من نوع أشد تأثيراً وأكثر فتكاً بالمتظاهرين، لدرجة أن البعض هتف الشعب يريد الغاز القديم، كنوع من الدعابة، وتحدث البعض عن آثار عصبية أو سامة لهذا النوع من الغاز، وأياً كان الأمر فإن استيراد الحكومة المصرية لهذا العدد الهائل من القنابل، رغم وجود أزمة اقتصادية خانقة يعاني منها المصريون، كان يعني مباشرة أن هناك رغبة لدى السلطات الحاكمة في القضاء على الثورة، والالتفاف على مطالبها، خاصة أن أياً من تلك المطالب لم يكن قد تحقق بعد. وسواء كانت هناك آثار سامة أو عصبية لذلك النوع من القنابل أو لم يكن، فإنها كانت أشد تأثيرا وإيلاما وإيذاءً من سابقاتها، وأن البعض اختنق أو تشنج أو شعر بالدوخة والغثيان بعد استنشاقها. ثم عرفنا فيما بعد حسب تصريحات رسمية أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت مصدر هذا النوع من القنابل وأنه تم تسليم كميات كبيرة منها للداخلية المصرية بعد 25 يناير وليس قبله، وهكذا فإن الولاياتالمتحدة التي تدرك أن هذا السلاح لا يستخدم في القضاء على البلطجية مثلاً، أو وقف الانفلات الأمني، ولكنه يستخدم فقط في مواجهة متظاهرين سلميين، كانت تساعد في القضاء على الثورة، وأنها لم تكن مرتاحة لنجاح الثورة، وأنها كانت تريد نظاماً جديداً ولكنه غير ثوري، ويعيد إنتاج نفس العلاقات الاقتصادية والسياسية للنظام السابق، وأن من يقف حائلاً دون ذلك هم الثوار المصريون وليس غيرهم، وهم من يتظاهر في الميادين لتحقيق مطالب الثورة. من جانب آخر، كانت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية قد كشفت عن وجه آخر من أوجه نفاق الغرب في التعامل مع "الربيع" العربي حيث أكدت أن الإدارة الأمريكية تناقض نفسها عندما تصدر تصريحات تعبر فيها عن دعمها للثورات العربية في وقت لم تتخذ فيه إجراءات لوقف شركات التكنولوجيا من مساعدة الأنظمة القمعية العربية كي تواصل قمعها للثائرين، وأكدت فورين بوليسي في تقرير لها جاء تحت عنوان "اختراق الثورات" أن مصر حصلت على تكنولوجيا تجسس أمريكية من شركة ناروس وهي أحد الشركات العملاقة التابعة لصناعة الطيران الأمريكية، فيما حصلت سوريا على نفس هذه التكنولوجيا من شركة " إن آي تي آي بي" الموجودة في وادي "السليكون ڤالي" مركز الصناعات التكنولوجية الأمريكية. وأوضحت المجلة أن الشركات الغربية زودت سلطات الأمن في مصر وسوريا والبحرين واليمن ببرامج وأنظمة معلومات استخدمتها أنظمة هذه الدول لمراقبة الرسائل الإلكترونية، والصوتية على الهواتف المحمولة، وقد حصل النظام السوري على برنامج "سمارت فيلتر" لمراقبة المواد المنشورة على الإنترنت وتصفية المعلومات غير المرغوب فيها من شركة "بلوك آوت" ومقرها في ولاية كاليفورنيا، وأضافت أن هذه الصفقات حصلت على الرغم من تعهد الإدارة الأمريكية بدعم حرية تدفق المعلومات على الإنترنت، كما نشرت صحيفة "الأهرام" آنذاك. بالنسبة لي ليس في الأمر مفاجأة، لأنني متأكد من أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تدعم الاستبداد في العالم العربي والإسلامي، بل في كل العالم مادام يحقق مصالحها، وأنها حين تتخلى عن مستبد من نوع الرئيس المخلوع حسني مبارك، فإن ذلك لأنه لم يعد من الممكن الدفاع عنه، ومن الأفضل لها أن تضحي به حتى لا تصل الثورة إلى مداها النهائي، ومن ثم يمكن إعادة سياسات النظام القديم بصورة جديدة. وكذا فإنه بالنسبة للمنطقة العربية بالتحديد فإن التزام الولاياتالمتحدة بأمن وحماية وتفوق إسرائيل يعني مباشرة عدم السماح بإقامة أنظمة حكم تستند إلى الشرعية الشعبية، لأن الشعوب تريد تحرير كامل التراب الفلسطيني، لكن أمريكا ترغب بإقامة أنظمة ديمقراطية أو فاشية عسكرية أو مدنية بشرط الالتزام بأمن إسرائيل. وهكذا فإن محاولة الولاياتالمتحدة وقف المسار الثوري للشعوب العربية هو أمر مفهوم ومتوقع، ولكن غير المفهوم وغير المتوقع أن بعض وسائط الإعلام والدعاية لا تزال تتحدث عن دعم الغرب وأمريكا للديمقراطية في الدول العربية.