ومما ورد في تحليله، أن التطرف الإسلامي يمثل ثورة مزلزلة لمنظومة نماذج الدولة- الأمة المنتشرة في المنطقة، بما هي عليه من ضعف وهشاشة وحداثة، لكونها لم تنشأ إلا إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. \r\n \r\n وقد بدا من خط التحليل الذي انتهجه كيسنجر، أنه وبسبب التيار الإسلامي المتطرف هذا، فقد أصبحت بعض النظم الوطنية الحاكمة في المنطقة الشرق الأوسطية، مهددة بالانهيار وبأن يحل محلها شكلٌ مَّا من أشكال الوحدة الأصولية. بيد أن الحقيقة هي أن \"الأمة العربية\" طالما واصلت السعي والحلم بالوحدة منذ عام 1919، إلا أنها لم تتمكن من تحقيقها قط. بل هي اليوم أكثر فرقة وانقساماً على نفسها من أي وقت مضى. وإذا عجزت \"الأمة العربية\" كلها عن تحقيق هذا الحلم، فكيف للخطر الأصولي أن يوحِّد العراق وحده -ناهيك عن المنطقة كلها- خاصة أنه قد انشطر على نفسه مؤخراً، بسبب التدخل العسكري الأميركي هناك؟ كما بدت الحركة الأصولية لكيسنجر، مهدداً لأمن واستقرار العالم الصناعي المتحضر، طالما أنها تطمح إلى تأسيس شكل من أشكال التنظيم العالمي، بحيث يطال نفوذه كافة المجتمعات التي يسودها المسلمون. ولكن السؤال ما هي الفرص الفعلية المتاحة أمامها لتحقق هذا الشكل المزعوم عملياً؟ فما من دولة من الدول غير الإسلامية -التي يغلب على مواطنيها الإسلام- ترغب حقاً في أن تؤول السلطة فيها للإسلاميين. والحقيقة أن في هذه الدول أجهزة شرطية وأمنية ودفاعية كبيرة لا يمكن أن توصف بأنها أصولية. فما الذي يدور في ذهن كيسنجر إذن، وإلى ماذا يريد أن يصل بتحليله؟ \r\n \r\n لقد عرف هذا الدبلوماسي السابق بتنبؤاته وتحذيراته الدرامية المثيرة التي تنطوي على مخاوف جيوسياسية كبيرة، سرعان ما تستأثر باهتمام الكونجرس والبيت الأبيض. وقد صادف نشر مقاله الذي نناقشه الآن، بالتزامن مع نشر صحيفة \"نيويورك تايمز\" لتقرير أشار إلى تبدد المخاطر الأمنية على أوروبا الغربية، جراء وقوع هجمات إرهابية جديدة جرى التنبؤ بها سابقاً. وللسبب نفسه لم تقع أي هجمات من هذا النوع على الولاياتالمتحدة الأميركية، منذ هجمات 11 سبتمبر. \r\n \r\n لماذا نحن مضطرون أصلاً لمقاومة الخطر الأصولي بالنيابة عن غيرنا؟ أليس الأوْلى أن يقاوم المسلمون أنفسهم ما يهدد بلدانهم من أصولية وتطرف؟ \r\n \r\n \r\n يذكر أن سلطات الأمن الفرنسية، كانت قد أمدت صحيفة \"نيويورك تايمز\" في عام 2004، بتحليل أمني جاء فيه أن شباب المسلمين الأوروبيين الذين ذهبوا للانضمام إلى العمليات الجارية في كل من العراق وأفغانستان، سيعودون حتماً إلى بلدانهم الأوروبية حاملين معهم خبراتهم التي اكتسبوها في ساحات العمل الإرهابي هناك، خاصة خبراتهم في مجال التعامل مع الأسلحة والمتفجرات. ولهذا السبب فإن من البديهي أن يشكل هؤلاء تهديداً مستمراً للأمن القومي للدول الأوروبية. \r\n \r\n وفي ذات الوقت، شاعت تنبؤات وتحذيرات مماثلة في عدة دول غربية أخرى، من بينها الولاياتالمتحدة الأميركية، التي لا تزال تلح فيها إدارة بوش وعدد من الساسة \"الجمهوريين\" والمحافظين الجدد، على الترويج لفكرة أن حرب العراق لم تستمر إلا لمقاتلة الإرهابيين في عقر دارهم، بدلاً من أن تنتقل ساحة القتال إلى داخل الولاياتالمتحدة نفسها. \r\n \r\n غير أن الذي تكشّف لاحقاً، أن مجموعات الشباب الأوروبيين المسلمين هذه، لم تكن بوسعها الهرولة للانضمام إلى ساحات العمل الإرهابي في الدولتين المذكورتين آنفاً كما زعم. والسبب أن تلك الهرولة تكلف الكثير من المال، وأن الشباب أنفسهم يفتقرون إلى الخبرة والتدريب العسكرييْن، مما يجعلهم غير مفيدين تماماً بالنسبة للإرهابيين المحترفين في العمليات القتالية، إلا إذا ما كانوا يرغبون في التطوع بأنفسهم باعتبارهم مقاتلين انتحاريين. وقبل ذلك لابد أن نشير إلى العقبة التي تمثلها أجهزة الأمن والشرطة الأوروبية أمام طريقهم للوصول إلى كل من العراق وأفغانستان، وهي أجهزة أمن معروفة بجودة أدائها وقدرتها على اعتقال كل من يتبادل أي شكل من أشكال الاتصال -أياً كان نوعه- في موضوع له علاقة بالنشاط الإرهابي. \r\n \r\n والملاحظ أن المحافظين الجدد الأميركيين قد ركنوا إلى فكرة أن الإرهاب الإسلامي أصبح مهدداً أمنياً دولياً بالفعل، وأنه سيبسط سيطرته على منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، عن طريق تهديد الأنظمة القائمة، ومن ثم يمضي إلى غزو أوروبا عن طريق الجاليات المسلمة المقيمة فيها. غير أنهم لم يفكروا مطلقاً في طرح هذا السؤال: هل ترغب الجاليات الأوروبية المسلمة حقاً، في جلب الفوضى السياسية ونقص الفرص الاقتصادية والشمولية الظلامية نفسها التي دفعت بها إلى مغادرة بلدانها أصلاً إلى أوروبا؟ \r\n \r\n إلى هنا نعود مرة أخرى إلى هنري كيسنجر، الذي يرى أن السبيل الوحيد للوقوف أمام هذا الخطر الإرهابي هو التدخل العسكري، بل يرى أن الخيار الوحيد المتاح أمام أميركا في حال مغادرتها للعراق، هو أن تقاوم المهدد الإرهابي من مواقع أخرى. والسؤال هو: لماذا نحن مضطرون أصلاً لمقاومة هذا الخطر بالنيابة عن غيرنا؟ أليس الأوْلى أن يقاوم المسلمون أنفسهم ما يهدد بلدانهم من أصولية وتطرف؟ \r\n \r\n ولئن كانت من قناعة كيسنجر أن تيارات الإسلام الأصولي، من القوة والنفوذ بحيث تستطيع تشكيل نظام عالمي أصولي جديد، فهل يكفي نشر قوة عسكرية أميركية هزيلة كتلك المرابطة في العراق حتى الآن، دون أن تتمكن من إحراز نصر عسكري حاسم على أي من الميليشيات الأصولية؟ والصحيح أن دافع هذه المغامرة الأميركية في العراق هو النفط وحماية إسرائيل، وأن واشنطن قد عجزت عن تحقيق أي من هذين الهدفين، بسب أن وجودها العسكري بحد ذاته، يؤجج نيران الأصولية الإسلامية عليها. وليس من حل لهذه الورطة المستمرة سوى الانسحاب. \r\n \r\n \r\n \r\n ويليام فاف \r\n \r\n كاتب ومحلل سياسي \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع \"تريبيون ميديا سيرفيس\" \r\n \r\n \r\n