فحتى لو افترضنا أن الاتهامات الخطيرة التي سيقت ضد الجمعية الفرنسية، والمرتبطة بالاستغلال الجنسي للأطفال عارية عن الصحة، وبأن المسؤولين في الجمعية كانت تحفِّزهم رغبة حقيقية في مساعدة الأطفال الأفارقة وتخفيف المعاناة عنهم، إلا أن الطريقة التي تمَّت بها الأمور كشفت عن انتهاك سافر للقواعد الأخلاقية المتعارف عليها، وباسم الأخلاق نفسها. \r\n \r\n فأولاً انكشف أن الأطفال، وخلافاً لما روَّجت له الجمعية الفرنسية من أنهم أيتام، يعيش 91 منهم ضمن عائلة تتشكل على الأقل من شخص بالغ، وذلك حسب البيان المشترك الذي أذاعته المفوضية العليا للاجئين، واليونيسيف. والواقع أن تفجر هذه القضية مع ما خلفته من ردود فعل دولية يشير بوضوح إلى الارتباك الذي يمكن أن تتمخض عنه مسألة التدخل الخارجي إذا لم يخضع إلى مراقبة دقيقة ومراجعة نقدية تضمن عدم انحرافه عن الأهداف المرسومة، كما يوضح أيضاً الأخطاء التي يمكن أن ترتكب باسم التدخل لحماية حقوق الإنسان، أو غيرها من الأغراض. ويبدو أن المسؤولين في الجمعية الفرنسية الذين كشفوا عن جهل كبير بالمجتمعات الأفريقية والديناميكية التي تحكمها كانوا مدفوعين برغبة الترويج للجمعية في الأوساط الفرنسية المتعاطفة مع محنة الأطفال الأفارقة، واستدرار الهبات والصدقات لتوجيهها إلى أفريقيا. وبالطبع لا يمكن سوى استنكار التنافس الذي بات يطغى على عمل الجمعيات غير الحكومية في الحصول على المساعدات واستمالة المانحين. \r\n \r\n لكن بصرف النظر عن هذه الملاحظات المرتبطة بالأخطاء الإجرائية التي وقعت فيها الجمعية الفرنسية، يبرز التصور المؤسس لتلك الأخطاء، والمتمثل في الاعتقاد الوثوقي بأن الأطفال الأفارقة سيكونون أفضل حالاً وأكثر سعادة في فرنسا منهم في بلدانهم الأصلية، وفي أحضان أسرهم الحقيقية. وهذا التصور لا يرى غضاضة في اجتثاث هؤلاء الأطفال من بيئتهم الطبيعية وقطع علاقاتهم مع عائلاتهم قصد الاستفادة من مكاسب مادية دون معرفة رأيهم، أو استشارة أهلهم، ناهيك عن إبرازهم على أنهم أيتام في حاجة إلى رعاية الأوروبيين، بينما الواقع يقول إنهم سيُبعَدون عن أُسرهم. وبالطبع لا يمكن التغاضي عن التصور الأشمل الكامن تحت سطح هذه الرؤية، والقائم على أن أوروبا أفضل من أفريقيا، والذي يحيل بدوره إلى فكر استعماري مازال متجذراً في الأذهان ويتخفى أحياناً تحت رداء النوايا الطيبة. بيد أن المسألة وخلافاً للماضي الاستعماري الذي سعى إلى استغلال خيرات البلدان الأفريقية والانتفاع بها، ترتبط في القضية الحالية بأطفال أفارقة، ما يضيف إليها بعداً إنسانياً لا يمكن إنكاره. \r\n \r\n النظم السلطوية في أفريقيا، لا تتورَّع عن ملاحقة المعارضة والزج برموزها في السجون، وتستغل بعض الأخطاء مثل قضية الأطفال بتشاد، للتشدُّق بحقوق الإنسان. \r\n \r\n وفي جميع التصريحات التي صدرت عقب اندلاع الأزمة أجمع المسؤولون في الجمعية الفرنسية، بالإضافة إلى ناشطين آخرين في مجال العمل الإنساني، على أنه لا مشكلة في انتهاك بعض القواعد والقوانين إذا كان ذلك سيصب في مصلحة الأطفال. لكن السؤال الذي قفزت عليه الجمعية الفرنسية وتحاشت الإجابة عنه هو ما إذا كان هؤلاء الأطفال سيتحسن وضعهم بالفعل، أم أنهم سيعانون من نتائج سلبية جراء انتزاعهم من أُسرهم ووضعهم في بيئة مختلفة تماماً؟ واللافت أن المسؤولين في الجمعية الفرنسية لم يرصدوا الجانب اللاأخلاقي في استقدامهم لأطفال أفارقة إلى أوروبا دون أخذ رأيهم ما دامت هناك اعتبارات أخلاقية عليا تفرض الالتفاف على القوانين، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى مسألة التدخل باسم النوايا الطيبة والتجاوزات المرتبطة بذلك المبدأ الفضفاض. ويحق لنا أن نتساءل في هذا السياق: كيف استساغت الجمعية تقرير ما هو جيد بالنسبة للآخرين دون أخذ رأيهم؟ ألا يعبر ذلك، بصرف النظر عن النوايا الصادقة، عن احتقار واضح لسكان دول الجنوب؟ \r\n \r\n وبالطبع استغل الرئيس التشادي \"إدريس ديبي\" القضية للجهر بمعارضته للتدخل الخارجي، والتنديد بالاستغلال الاستعماري للقارة الأفريقية. وقد نجح النظام التشادي في ركوب موجة الاستياء المشروع للأفارقة لتدعيم مواقفه الداخلية، وإظهار نفسه بمظهر المنافح عن السيادة الأفريقية والكرامة الوطنية، على رغم التجاوزات الكثيرة التي يقترفها. لكن الأفارقة الذين يرون كيف تغلق أوروبا أبوابها في وجه المهاجرين الذين يودون تحسن ظروفهم وتجريب حظهم في الأراضي الأوروبية يفاجأون بأنها في خضم ذلك تقتحم عليهم حياتهم، تحت مسميات عديدة، بل وتسعى إلى سرقة أبنائهم. وفي كل ذلك ينفتح المجال أمام النظم السلطوية في أفريقيا، التي لا تتورَّع عن ملاحقة المعارضة السياسية والزج برموزها في السجون، لاستغلال بعض الأخطاء مثل قضية الأطفال بتشاد للتشدُّق بحقوق الإنسان، رغم أنها أول من ينتهكها. وأياً كان الأمر تشكل القضية الحالية فرصة سانحة لإعادة مراجعة مبدأ التدخل الأجنبي وما يترتب عليه من غموض والتباس بين دول الشمال، التي تبرره أخلاقياً وبين دول الجنوب التي ترى فيه نوعاً من الإمبريالية الجديدة. \r\n \r\n وإذا كانت اعتبارات السيادة الوطنية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون ذريعة في أيدي النظم السلطوية لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، فإن مبدأ التدخل في المقابل لا يجوز أن يتحول إلى ذريعة تلجأ إليها الدول الكبرى للتدخل في شؤون الدول ذات السيادة. ومع ذلك علينا ألا نُحمل وزر ما حدث، بشأن قضية الأطفال الأفارقة، للمنظمات غير الحكومية مثل الصليب الأحمر واليونيسيف والمفوضية العليا للاجئين، التي تقوم بعمل جبار لمساعدة سكان دول الجنوب دون المساس بسيادة تلك الدول، أو التدخل في شؤونها. لكن تبقى المشكلة في بعض المنظمات الأخرى الهامشية التي تبيح لنفسها صلاحيات أكثر مما يسمح به القانون، كما تعطي لنفسها الحق في انتهاكه أحياناً، سعياً وراء أهداف تقول إنها نبيلة وسامية. والنتيجة هي ما حصل مع أطفال تشاد، وتشوه سمعة العمل الخيري في أفريقيا، فضلاً عن تعمق الشكوك تجاه دول الشمال وأهدافها الحقيقية. \r\n \r\n \r\n \r\n