\r\n في الواقع، لقد كانت انتخابات كولومبيا الرئاسية التي جرت مؤخراً تاريخية حقاً. فلقد سُمِح للرئيس أوريبي ذي الشخصية الكاريزمية والذي يتسم بالإخلاص في العمل - للمرة الأولى في تاريخ كولومبيا المعاصر - بخوض الانتخابات للفوز بولاية ثانية تمتد أربعة أعوام لكي يظل قائماً على منصبه بعد أن أحرز انتصاراً مطلقاً في الجولة الأولى بحصوله على أغلبية مطلقة بلغت 62% من مجموع أصوات الناخبين. \r\n ولقد كان في ذلك النصر القضاء المبرم على الحكم الرديء ثنائي الحزبية الذي دام قرناً ونصف القرن من الزمان. ويبدو أن أوريبي، الليبرالي السابق، أصبح قاب قوسين أو أدنى من صياغة إجماع جديد في البلاد - والذي تجسد في حركة »كولومبيا الأولى« التي أسسها، وهي عبارة عن كتلة مؤلفة من ستة أحزاب مناصرة له - يتبنى ذلك النوع من تحديث الاقتصاد وانتهاج السياسات الديمقراطية الليبرالية التي اتسمت بها أغلب دول الغرب خلال الخمس والعشرين سنة الماضية. \r\n ويقف حزب بولو الديمقراطي البديل Polo Alternativo Democr?tico اليساري الجديد معارضاً لهذا الإجماع. وتحت زعامة كارلوس جافيريا قاضي المحكمة الدستورية السابق، يتألف الحزب من نطاق واسع من اليساريين يتراوح ما بين المقاتلين الماركسيين إلى الديمقراطيين الاجتماعيين التابعين ل»الطريق الثالث«. \r\n لقد كان النصر الذي حققه أوريبي، والإجماع السياسي الناشىء الذي عكسه ذلك الانتصار، بمثابة حدث فريد من نوعه وذلك بسبب الطريقة السلمية التي تم بها، وذلك على النقيض من العنف الذي اندلع على أيدي عصابات اليسار حين فاز بالرئاسة منذ أربعة أعوام. والحقيقة أن القوات المسلحة الثورية الكولومبية FARC، والتي تتألف من مروجي المخدرات من الماركسيين الريفيين، والتي تعد من أشد فصائل المتمردين في كولومبيا عنفاً، قد هددت بارتكاب أعمال عنف لكنها تراجعت، وذلك بسبب نجاح أوريبي في تقويض قدراتها العسكرية تماماً والقضاء على التأييد الشعبي الذي كانت تتمتع به. \r\n لقد جمعت سياسة العصا والجزرة، التي انتهجها أوريبي مع المحاربين من رجال العصابات، بين »الأمن الديمقراطي« في ظل حكم القانون وبين احترام حقوق الإنسان تحت الشعار الشهير »عاشت كولومبيا وعاش السفر والترحال بين ربوعها«. وكان المعنى المقصود من هذا الشعار أن الحكومة تعتزم (بالسبل العسكرية) تحرير شبكات الطرق الرئيسية في البلاد، حتى ولو كانت تلك الطرق تمر عبر مناطق تسيطر عليها القوات المسلحة الثورية الكولومبية. وبعد أربعين عاماً من الصراع الداخلي الدامي أثبتت هذه الإستراتيجية جدارتها. \r\n وفي ذات الوقت نجح أوريبي في تأمين اتفاق تم التوصل إليه من خلال التفاوض، ويتلخص هذا الاتفاق في تسريح القوات التابعة لمتمردي جناح اليمين شبه العسكريين، والقوات المتحدة للدفاع عن الذات. ولقد تم بنجاح تسريح ثلاثين ألف جندي من القوات المتحدة للدفاع عن الذات من خلال تنفيذ برنامج أطلق عليه »الأيدي الصارمة والقلب الكبير«. ولقد اعتمد ذلك البرنامج على تعويض ضحايا تلك القوات مدنياً ومالياً. ومن المحتمل أن يواجه ألفين من كبار قادة القوات المتحدة للدفاع عن الذات، والذين سلموا أنفسهم في مقابل إصدار أحكام مخففة عليهم، محاكمات جنائية. \r\n فضلاً عن ذلك فمن المتوقع أن تعمل المحكمة العليا في كولومبيا على الحد من مسألة الإفلات من العقاب، وذلك من خلال تعديل القانون الذي يسمح لهذه المحاكمات بجعل كافة أصول أولئك المتمردين تحت تصرف الحكومة لاستخدامها في تعويض الضحايا. وهناك وعود بالحصول على اعترافات كاملة بشأن الجرائم التي ارتكبتها القوات المتحدة للدفاع عن الذات، حيث يواجه المحاربون المتمردون السابقون العقوبة الكاملة إذا ما تعمدوا إخفاء المعلومات. \r\n لقد حظي هذا النموذج بترحيب كبير على الصعيد الدولي باعتباره صيغة ممكنة للتسوية وإنهاء تلك الصراعات العنيدة التي لا يمكن التجاوز عن الفظائع التي ارتكبت خلالها، ولكن لابد في ذات الوقت من تقديم الحوافز اللازمة لنزع سلاح الطوائف المتحاربة. \r\n كما تمكن أوريبي، على الرغم من كونه حليفاً للولايات المتحدة، من الحصول على التأييد لرئيس كوبا فيدل كاسترو الذي يبدو أنه قد تخلى عن دعمه للنزاعات الثورية المسلحة في أمريكا اللاتينية، وبدأ ينظر إلى النجاح بواسطة صناديق الاقتراع كما حدث في كولومبيا مع حزب بولو الديمقراطي البديل، وفنزويلا مع هوجو شافيز، ومع إيفو موراليس في بوليفيا باعتباره الطريق إلى الأمام. والآن يتوسط كاسترو بين حكومة أوريبي وبين جيش التحرير الوطني، وهو عبارة عن جماعة إرهابية ماوية سابقاً وكاثوليكية يسارية حالياً. وعلى عكس القوات المسلحة الثورية الكولومبية فقد انخرط جيش التحرير الوطني في عملية السلام، وقد يتبع قريباً القوات المتحدة للدفاع عن الذات في العودة إلى الحياة المدنية المشروعة. \r\n ونظراً لوجود القوات المسلحة الثورية الكولومبية فإن كولومبيا تنزع إلى التشكك العميق في سلوكيات اليساري شافيز المنهمك حالياً في تسليح شعبه ببنادق الكلاشينكوف التي ينتجها مصنع روسي أنشئ مؤخراً. ولكن على النقيض من الرئيس ألان جارسيا في بيرو، الذي قد يحاول شافيز مشاكسته، فقد أجبر شافيز على الاعتراف بالشعبية الهائلة التي يتمتع بها إوريبي. \r\n لكن أوريبي يدرك أن مهمته لم تكتمل بعد. فقط بإلحاق الهزيمة بالقوات المسلحة الثورية الكولومبية والقضاء على عمليات إنتاج الكوكايين والهيروين عن طريق سياسة إبادة تتلخص في رش المحاصيل وتقديم الإعانات لمزارعي المحاصيل البديلة ذات العائد النقدي، يستطيع أوريبي أن يضمن الأمن لكل أهل كولومبيا. لكن الغرب لابد وأن يبذل المزيد من الجهود من أجل قطع خطوط الإمدادات المالية المستخدمة في عمليات زراعة وترويج المخدرات وتوفير المواد الكيميائية اللازمة لمعالجة الكوكايين. والأمر يتطلب المزيد من الجهود المبذولة على غرار »مختبرات السلام« التابعة للاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق الاستقرار في مناطق الصراع. \r\n إن البرنامج السياسي الذي يسعى أوريبي إلى تنفيذه يعتمد برمته على سجله الاقتصادي القوي، والذي يتلخص في تحقيق معدل نمو ثابت بلغ 5% سنوياً. والحقيقة أن وعد النمو المستدام لابد وأن يشكل الأساس لأي حزب غير اشتراكي ناجح في أمريكا اللاتينية. \r\n ولكن لكي يستمر الإجماع الذي حققه أوريبي حتى بعد رحيله، ولكي يتحول إلى نموذج حقيقي قابل للتطبيق في كافة أنحاء القارة، فإنه يدرك ضرورة فوزه بقلوب وعقول أهل الريف الساخطين في كولومبيا. وقد يكون من المفيد أن يبادر أوريبي إلى منح صغار ملاك الأراضي القرويين ألقاباً قانونية، علاوة على إنشاء مصرف ائتماني ريفي تنظمه الدولة. \r\n إن ولاية أوريبي الثانية تجلب الأمل في أن يتحول مليونان من المبعدين والنازحين داخلياً في البلاد إلى مواطنين فخورين بإسهامهم في مستقبل كولومبيا الذي بات أكثر إشراقاً الآن. كما أنها تجلب الأمل إلى قوى السوق الديمقراطية الحرة التي ما زالت واقعة تحت الحصار. \r\n \r\n