هذا ويسود الاعتقاد العام بأن حقبة الأحادية القطبية, قد بدأت في التاسع من نوفمبر عام 1989, لحظة انهيار حائط برلين. والمنطق وراء هذا الاعتقاد بديهي ومباشر. فمع نهاية الحرب الباردة, ومع ما تمخض عنها من انهيار أحد قطبي الصراع والتنافس الدولي, لم يكن هناك سوى قطب واحد, بات هو القوة العظمى الوحيدة المتفوقة على نطاق العالم بأسره. ثم إن هناك عاملاً آخر عزز هذه الحقيقة وأكدها, ألا وهو القوة العسكرية الأميركية غير المسبوقة, التي لا تقارع من قبل كافة جيوش العالم, كما رأيناها وهي تبرز عضلاتها العسكرية, في كل من الكويت وكوسوفا وأفغانستان وغيرها, فضلاً عن تفوق أميركا في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. \r\n وعلى الرغم من الفهم العام والتسليم بهذه الحقيقة, إلا أنه فات على المراقبين – نتيجة لإنصراف اهتمامهم أكثر, إلى انقضاء حقبة جيوسياسية في تاريخ البشرية المعاصر- فات عليهم, قدوم حقبة جديدة في التاريخ نفسه هي عصر العولمة. وتبعاً لهذا, فقد طرأ تحول على المفاهيم والنظم الفكرية نفسها. ذلك أن انقلاباً قد حدث نتيجة لتبدل التنافس والصراع الحاد الذي ميز العلاقات بين الدول الكبرى المنافسة للولايات المتحدة الأميركية – مع العلم أن هذا الصراع التنافسي ظل بمثابة القوة الدينامية المحركة للتاريخ على امتداد عدة قرون خلت - إلى عالم جديد ومفاجئ تماماً, لم تعد فيه القوة الرئيسية المنافسة والمهددة لأمن الولاياتالمتحدة الأميركية, قطبا أو قوة عظمى أخرى, مثلما كان الحال في الماضي, إنما أصبحت هذه القوة مركبة ومتعددة الوجوه والملامح, وتتمثل في تفشي الفوضى السياسية العامة, والإرهاب الدولي, وانتشار الأسلحة النووية, وسياسات الحماية التجارية, والتغير المناخي, إلى جانب تفشي الأمراض والأوبئة المعدية. \r\n والأمثلة على هذه المخاطر والمهددات كثيرة, لدرجة أنها لا تحصى ولا تعد. خذ لذلك مثلاً هجمات الحادي عشر من سبتمبر, التي تعرضت لها الولاياتالمتحدة في عام 2001. ثم ما تعرضت له للتو العاصمة البريطانية لندن, إضافة إلى ما يمكن أن تتعرض له الولاياتالمتحدة نفسها مرة أخرى. فجميع هذه أمثلة من عينة واحدة فحسب, من عينات الخطر المحدق بأميركا في هذا العصر الجديد, وهي يقيناً مؤشرات على الجانب المظلم من عصر العولمة هذا. ويقيناً أيضاً أنه لن يكون في مقدور الولاياتالمتحدة, التصدي لخطر الإرهاب الدولي وحدها. فالحقيقة التي لا مراء فيها, أن مواجهة الإرهاب, تتطلب تعاون الدول الأخرى في المجالات الاستخباراتية, وفي التنسيق في سن القوانين والتشريعات الخاصة بمكافحته, فضلاً عن التعاون النشط واليقظ على مستوى حماية الأمن القومي, إلى جانب التأكد من عدم تعرض حكومات ودول العالم النامي إلى الفشل, مع تزكية قدرتها على تجاوز هذا الفشل في حال حدوثه. كما يتطلب الأمر, التعاون المشترك مع بقية دول العالم في إصلاح المجتمعات العربية ونشر قيم الديمقراطية فيها. \r\n والشيء نفسه ينطبق على التحدي الذي تواجهه الولاياتالمتحدة الأميركية بشأن الأزمة النووية الماثلة في كوريا الشمالية. إذ تعجز الولاياتالمتحدة منفردة, عن إرغام بيونج يانج على التخلي عن برامجها ومطامحها النووية. وعلى الصعيد العسكري, فهي تعجز عن غزوها إن دعا الأمر, بسبب ما تضطلع به أميركا من مهام وتحديات جمة حالياً في العراق. والشاهد أن هذا العامل الأخير بالذات, هو الذي يصرف واشنطن حتى عن مجرد التفكير النظري في شن غزو عسكري على بيونج يانج. وحتى في حال توفر القدرة العسكرية الكافية لشن غزو كهذا, فعندها سيكون واجباً على واشنطن, خوض مقاومة شرسة لخطوة كهذه من قبل كوريا الجنوبية والصين واليابان, باعتبارها دولاً مجاورة لبيونج يانج. \r\n من هنا تنشأ أهمية الإعلان الصيني عن استضافة المحادثات الدولية الخاصة بحل الأزمة النووية في كوريا الشمالية. وللصين أسبابها العديدة وراء اتخاذ مبادرة كهذه, أقلها الخوف من أن تحذو الدول المجاورة الأخرى, مثل اليابان وكوريا الجنوبية, المنحى ذاته الذي نحته كوريا الشمالية, فتسعيان إلى تطوير أسلحتهما النووية الخاصة بهما. \r\n إلى ذلك فإن للصين من وسائل التأثير والنفوذ, ما يمكنها من لعب دور مؤثر في تعديل مواقف كوريا الشمالية المتشددة. ذلك أن للصين وحدها نصيب الأسد من إجمالي الواردات والصادرات الكورية الشمالية. لذا وإلى حين حلول موعد انعقاد تلك المحادثات, فإن على إدارة بوش أن تتخلى عن أملها الواهم في أن يتداعى أو يختفي النظام الحاكم في بيونج يانج. وبدلاً من ذلك, فإن على واشنطن أن تقدم لكوريا الشمالية من التعهدات والالتزامات, ما يطمئنها على سلامة أمنها القومي, وعدم تعرضها لأي ضربة عسكرية محتملة من جانب الولاياتالمتحدة الأميركية أو أي من حلفائها الغربيين. كما ينبغي على واشنطن تقديم ما يحفز بيونج يانج على صعيد المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية التي سوف تجنيها, مكافأة لها على تخليها عن برامجها وأنشطتها النووية. وبالطبع سوف يتعين على واشنطن إقناع الدول الأطراف المشاركة في المحادثات المرتقبة – روسيا, كوريا الجنوبية, الصين, واليابان- بأن تلك المكاسب التي ستجنيها كوريا الشمالية, إنما تستند حصرياً على تخلي الأخيرة عن برامجها ومطامعها النووية. \r\n \r\n ريتشارد إن.هاس \r\n \r\n رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"