كيف نجح البريطاني ليوبولد ايميري في كتمان هويته الدينية \r\n \r\n يقول البروفسور روبنشتاين: «إن نجاح ليوبولد ايميري في إخفاء دينه اليهودي (والظهور بمظهر المسيحي) يعد أكبر عملية إخفاء للشخصية الحقيقية في التاريخ السياسي للقرن العشرين» (مجلة التاريخ المعاصر). فقد كان ليوبولد إيميري من القادة السياسيين للمحافظين ومن الحلفاء المقربين والأصدقاء الموثوقين عند أحد قادة الحروب البريطانية وينستون تشرشيل، بل إن إيميري كان مؤلف وعد بلفور الشهير الذي صدر عام 1917 وتعهد بأن تقدم الحكومة البريطانية الدعم والتأييد لاغتصاب واستيطان اليهود لفلسطين (كلمة اغتصاب جاءت بالنص الإنكليزي لهذا المقال)؛ وكان إيميري طوال حياته وعمله يخفي أصوله اليهودية، لكن البروفسور روبنشتاين وهو يهودي بريطاني أيضاً يسلط الضوء هنا على الخداع الذي قام به ايميري بشكل ناجح ويثبت ذلك بدون أدنى شك. وفي التحقيق الذي يقدمه حول ماضي وأصول ايميري يقول البروفسور روبنشتاين إن إيميري ضلل وخدع الجميع بشأن ماضيه وأصله اليهودي ولم يتطرق إليه أو يذكره في كتاب ألفه وأصدره ايميري نفسه باسم «حياتي السياسية» ونشره قبل موته في عام 1955. ففي هذا الكتاب أعلن ايميري أن والده تشارلز فريدريك ايميري من عائلة كانت تعيش في الريف الغربي الإنكليزي، لكن المؤرخ البريطاني البروفسور روبنشتاين يقول إن ايميري حاول في كتابه إخفاء دين والدته وأصولها. فهو لم يذكر في كتابه سوى أن أمه اليزابيت لايتنير ايميري وأضاف إلى اسمها اسم عائلة والده، كانت من بين الهنغاريين الذين هاجرت أسرتها بعد أحداث 1848 والثورة التي وقعت في هنغاريا إلى بريطانيا بعد فرارها إلى اسطنبول ثم رحيلها إلى بريطانيا. والحقيقة التي يكشفها روبنشتاين في دراسته الجديدة أن والدة إيميري ولدت في عام 1841 لأبوين يهوديين كانا يعيشان في مدينة بيست التي أصبحت في ما بعد جزءاً من عاصمة هنغاريا «بودابيست» وكانت منطقة بيست تضم حياً يهودياً. وكانت أم اليزابيت والدة ليوبولد ايميري تدعى اليزابيت يوحنان سافير وهي عائلة يهودية تقليدية في ذلك الحي. ويكشف البروفسور اليهودي روبنشتاين أن إيميري أخفى أيضاً الاسم المركب الذي حمله وهو ليبولد موريتس وحوله إلى اسم أكثر قرباً من الإنكليزية وهو ليوبولود موريس وكان سبب هذا الإخفاء والتعديل هو إبعاد أي مؤشر أو شك يقود إلى معرفة أصله اليهودي. أما والدة ايميري فمعروفة بأنها من اليهوديات المحافظات على الدين اليهودي ومن اللواتي تعلّمن التاريخ اليهودي السلفي الأورثوذوكسي وقد أنشأت ابنها على هذه التقاليد. وقد ظهرت مشاعر وتصرفات إيميري الهستيرية أحياناً ضد الألمان في الحرب العالمية الأولى والثانية والسنوات التي أعقبت الحرب الثانية بشكل لا يقبل أدنى شك بيهوديته التي كانت معادية للألمان وللمسيحية تماماً. ففي عام 1917 كان ايميري يحتل منصب مساعد وزير الحرب البريطاني وظهر بمظهر الإنكليزي المتعصب لخداع المسؤولين البريطانيين حين وضع مسوّدة أخطر وثيقة صهيونية يهودية دموية هي «إعلان وعد بلفور» الذي أصدره اللورد بلفور وزير الخارجية البريطاني في العام نفسه. وكان بلفور هو أيضاً من وقع باسم الحكومة البريطانية اتفاقية فيرساي التي قادت مباشرة إلى إعلان الحرب البريطانية على ألمانيا وتسببت بدمار وخراب في أوروبا كلها. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n الوثيقة الشريرة \r\n \r\n شكل «تقرير بلفور» والوعد الذي صدر عنه أخطر وثيقة شريرة استندت إليها الحركة الصهيونية واليهود المؤيدين لها في وضع ميثاق تأسيس دولة إسرائيل الذي حمل معه المحرقة للفلسطينيين. وكان أهم دافع يحرك ايميري في وزارة الدفاع هو مصلحة الحركة الصهيونية التي يؤيدها ويتبنى مصالحها بشكل أساسي. وهو من أنشأ من مكتبه في وزارة الدفاع أول قوة عسكرية مسلحة من اليهود لوحدهم وأطلق عليها اسم «الكتيبة اليهودية» في الحرب العالمية الأولى وهي أول جيش يهودي صغير ينشأ منذ العهد الروماني الذي حكم خلاله الرومان فلسطين في الماضي. وتشكلت هذه الكتيبة من عدد من السرايا التي التحق بها جنود من أصل يهودي ومن مختلف الجنسيات البريطانية وغير البريطانية وعملت تحت العلم البريطاني وإشراف وزارة الدفاع البريطانية والدور الذي يقوم به ايميري داخلها لتدريبها وتحديد مهامها. وأصبحت هذه القوة العسكرية اليهودية هي النواة والقاعدة التي أنشئ على أساسها الجيش الإسرائيلي داخل فلسطين (أثناء الانتداب البريطاني) والذي عرف باسم (الهاغاناه) منظمة (الدفاع العسكرية). وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واحتلال فلسطين من قبل الجيش البريطاني تحول جنود هذه السرايا إلى جنوب في المنظمات العسكرية الصهيونية اليهودية في فلسطين ومواطنين يهوداً تحت إدارة الانتداب البريطاني ومحاربين ضد المقاومة الفلسطينية التي عارضت سلب أراضيها من قبل هذا الجيش اليهودي المدعوم من الجيش البريطاني وحكومة الانتداب. وشارك هؤلاء الجنود في النهاية في جميع المعارك التي جرت في فلسطينالمحتلة ضد الفلسطينيين منذ العشرينات حتى إعلان إسرائىل عام 1947، والحرب التي وقعت عام 1948 والمذابح التي ارتكبت لإجبار الفلسطينيين على الهروب من بيوتهم وأراضيهم إلى الدول العربية المجاورة. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n الإرهاب اليهودي في فلسطين أثناء الانتداب البريطاني \r\n \r\n اتسع الإرهاب الصهيوني الذي مارسته المنظمات اليهودية المسلحة في فلسطين حتى طال الحلفاء البريطانيين أيضاً عن طريق الخطف ووضع المتفجرات في أماكن تجمع البريطانيين داخل فلسطين. وكان من بين أهم العمليات الإرهابية التي نفذتها هذه المنظمات التفجير الضخم الذي وقع في فندق الملك داوود في مدينة القدس والذي راح ضحيته 105 من البريطانيين كان الكثيرون منهم من النساء والأطفال. لكن هذه الجرائم جرى إخفاؤها وشطبها من كتب التاريخ بموجب ما يقول روبنشتاين. وفي ذلك الوقت نفسه وأحداثه الواضحة في فلسطينالمحتلة لم تتسبب المشاعر العلنية والمواقف التي كان ايميري يؤيد من خلالها اليهود في فلسطين في إثارة أي علامة استفهام حوله لأن هويته وأصله اليهودي لم يظهرا مطلقاً لأحد من بين زملائه في الحكومة البريطانية. بل إن أنتوني إيدن الذي كان يعتبر من المعادين لليهود وهو أحد زملاء إيميري في الحكومة في ذلك الوقت لم يشعر بأن صديقه إيميري من أصل يهودي رغم تحمسه الظاهر لهم ولما يقومون به في فلسطين، (أصبح ايدن بعد ذلك رئيساً للحكومة البريطانية) ومن المفترض القول إن رجال السياسة البريطانية وأصحاب القرار في لندن كانوا قد اعتبروا أن حماسة ودعم ايميري لليهود والحركة الصهيونية مجرد موقف يصب في مصلحة بريطانيا وهيمنتها وسياستها الاستعمارية في آسيا في ذلك الوقت. لكن هذه السياسة ومن كان يديرها تسببت بكراهية العرب الشديدة لبريطانيا حتى يومنا هذا، فالعرب ازدادت كراهيتهم لبريطانيا إلى حد جعل البريطانيين يفقدون مليارات الجنيهات الإنكليزية وعشرات الآلاف من الوظائف في البلدان العربية. وفي الفترة الممتدة من عام 1925 حتى 1929 استلم ستانلي بالدوين رئاسة الحكومة البريطانية عن حزب المحافظين، وفي الفترة نفسها تسلم إيميري منصب وزير شؤون دول الكومونويلث أي وزير المستعمرات البريطانية وبدأ من منصبه هذا بتقديم دعم كبير لليهود البريطانيين وتسهيل استغلالهم المالي والتجاري والسياسي في عدد من المستعمرات البريطانية بل وفي دول كثيرة في العالم. ونجح في ذلك الوقت أيضاً في إخفاء شخصيته اليهودية الصهيونية من دون أن يشك به أي من زملائه الوزراء أو أعضاء مجلس العموم (البرلمان) البريطاني رغم النشاطات والقرارات كافة التي كان يتبناها لمصلحة اليهود البريطانيين واليهود في فلسطين. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n ايميري والحرب على ألمانيا عام 1940 \r\n \r\n تعتبر الحرب البريطانية على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية من المحطات التي أبرزت ايميري بصفة البريطاني والجنتلمان السياسي وذلك في شهر أيار/ مايو عام 1940 حين لعب دوراً حاسماً ومهماً في إسقاط حكومة نيفيل تشامبرلين البريطانية التي سعت إلى تبني سياسة سلمية في أوروبا واتجاه ألمانيا في ذلك الوقت. فقد كان ايميري هو الذي ألقى خطاباً شديد الوقاحة والجرأة استفز فيه وتسلل من خلاله إلى مشاعر أعضاء البرلمان البريطاني للمطالبة بإسقاط حكومة تشامبرلين بعد إعلانها المشترك مع ألمانيا التهدئة السلمية في أعقاب بعض التهديدات الألمانية لأوروبا. ففي ذلك الوقت أنهى إيميري خطابه الناري ضد ألمانيا موجهاً حديثه إلى رئيس الحكومة تشامبرلين: «إنني أدعوك باسم الرب أن تغادر هذا ما ينبغي أن نفعله معك، أن تغادر». وكان هذا الخطاب من المؤشرات الأولى على سقوط جناح «السلام في أوروبا» من داخل حزب المحافظين وفتح الباب أمام التيارات والمجموعات الحزبية والسياسية البريطانية التي تؤيد بحرارة الحرب على ألمانيا لإبعادها عن موقع المنافس التجاري والصناعي ضد بريطانيا ومن أجل نهب بريطانيا لألمانيا التي كانت تعد من أكثر الدول ازدهاراً في نهاية الثلاثينات. ولم يكن الكثيرون يعرفون أن نصف المجموعات السياسية والاقتصادية الداعمة لشن الحرب على ألمانيا كانت من أصحاب أسهم مصانع إنتاج الذخائر والأسلحة العسكرية. وكان ايميري بصفته اليهودية التي لا يعرفها أحد لديه أسباب كثيرة لإذكاء نار الحرب البريطانية على ألمانيا ومهاجمة تشامبرلين وسياسته السلمية في أوروبا واتجاه ألمانيا في ذلك الوقت. وبعد اشتراك بريطانيا في الحرب ضد ألمانيا ظهر جلياً أن تشامبرلين كان واحداً إن لم يكن آخر رجال السياسة البريطانيين العقلاء والمحترمين في تاريخ الحكم البريطاني. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n كيف جرّ اليهود الصهيونيون بريطانيا إلى الحرب ضد ألمانيا؟ \r\n \r\n لم يكن إيميري قد نسي الكلمات التي أعلنها تشامبرلين في أيلول/ سبتمبر عام 1939 أو تسامح عنها حين قال تشامبرلين: لوزير خارجيته اللورد هاليفاكس: «إن يهود الولاياتالمتحدة يدفعون بنا ويريدون جرنا إلى خوض حرب كبيرة» (ويذكر أن هناك مؤرخين يعتبرون أن واشنطن واليهود فيها أدركوا أن من مصلحتهم إشغال أوروبا في حرب مدمرة توفر للأميركيين فرصة وراثة مستعمرات بريطانيا وفرنسا في آسيا والعالم). ولذلك فاز الجناح المؤيد للحرب داخل حزب المحافظين وهو الجناح الذي كان إيميري من بين قادته وكان وينستون تشرتشل زعيمه، واستطاع هذا الجناح فرض سياسته على الحزب والحكومة، فتجاهلت الحكومة البريطانية مقترحات السلام الألمانية وأدخلت السياسة البريطانية في نزاع عالمي نتجت عنه أكبر كوارث الحرب وأشدها وحشية ودموية في تاريخ الجنس البشري. وفي النهاية تسببت هذه الحرب وانتصار الحلفاء فيها بتحويل نصف أوروبا إلى دول شيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي وإلى تحويل فلسطين رسمياً وعملياً إلى دولة يهودية كنواة للإمبراطورية الصهيونية اليهودية في هذا العالم. ويقول البروفسور روبنشتاين إنه اكتشف شخصية إيميري وإخفائه ليهوديته بعد أن بدأ يتحقق من حدسه الداخلي ويتابع مستلزماته في البحث والتدقيق والتفتيش عن مراجع خلال سنوات كثيرة. وقال في المقال الذي نشره في مجلة «التاريخ المعاصر»: «كنت متأكداً بنسبة 75% مما سوف أتوصل إليه قبل شروعي بالبحث والتفتيش عن مراجع. ولأنني كنت قادراً على الاطلاع بصفتي يهودياً على المراجع اليهودية والمصادر البريطانية وعلى طرق التفكير اليهودي تمكنت من جمع القطع الصغيرة للقصة الكاملة دون صعوبة كبيرة». وظهر لروبنشتاين قصة مستغربة تثير التهكم هي أن ابن ليوبولد إيميري الذي يدعى جون كان والده قد أبعده وتنكر له ولم يرغب بذكره لأنه من المنتمين لحزب فاشي بريطاني يكره اليهود. وظهر أيضاً أن جون فرّ إلى ألمانيا للعيش فيها وبقي فيها أثناء الحرب البريطانية ضد ألمانيا، وبدأ في نفس ظروف الحرب يقوم بإذاعة رسائل من راديو برلين يدعو فيه إلى السلم بين بريطانيا وألمانيا ويحرض الشعب البريطاني على الثورة على «الديكتاتور» البريطاني وينستون تشرتشل وزمرة الحرب التي يقودها. فبينما كان إيميري يحرض على الحرب ضد ألمانيا ويشارك فيها أثناء سنواتها الأولى كان ابنه جون يحرض ضد بريطانيا ويقف إلى جانب ألمانيا بصفته بريطانياً ضد الحرب بين الدولتين. في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام ألمانيا فرّ جون إلى إيطاليا للنجاة والتهرب من العقاب، لكن قوات الحلفاء اعتقلته وسلمته مقيداً إلى بريطانيا وجرت محاكمته بشكل فوري بتهمة «الخيانة العظمى» وصدر الحكم بإعدامه شنقاً. وفي أحد سجون لندن جرى تنفيذ الحكم فيه وقذف بجثته دون أي طقوس دينية مسيحية أو يهودية إلى داخل حفرة في سجن بنتون فيل. وبعد تنفيذ الإعدام قال البريطاني الذي نفذ الإعدام ألبيرت بيربونيت إن جون إيميري كان من أشجع الرجال الذين نفذ فيهم حكم الإعدام شنقاً. ولعل جون مات دون أن يدري عن ماضي والده وأصوله اليهودية، فهذا السؤال ربما مات معه ولا يمكن التأكد من الإجابة عليه رغم أن روبنشتاين يرى وجود احتمال لمعرفة جون بأن والده يهودي. وهناك شقيق آخر لجون ويدعى (جون) أيضاً تمكن من العمل مع والده وأصبح من بين الشخصيات البارزة في الحكومات البريطانية التي تشكلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتوفي قبل سنوات ودفن معه سرّ أبيه ولم يتطرق مطلقاً أثناء حياته إلى الأصول اليهودية الهنغارية التي أخفاها والده. وحاول البروفيسور روبنشتاين البحث في الأسباب التي دعت إيميري إلى إخفاء جذوره اليهودية في بريطانيا. ويبدو أنه في تلك الفترة من بداية القرن العشرين كان المجتمع البريطاني يتعامل مع اليهود بنوع من الاشمئزاز والامتعاض. ومع ذلك يرى روبنشتاين أن أحد أسباب إخفاء جذوره اليهودية ربما يعود إلى طموحه بالدخول إلى قلب المجتمع الإنكليزي كما أن الكشف عن هذه الجذور داخل مدرسة خاصة للنخبة البريطانية قد يؤدي إلى حرمانه منها، وهذا ما جعله منذ ذلك الوقت يبرز صورته كإنكليزي وطني. ويشير روبنشتاين إلى أن معظم الذين يخفون جذورهم اليهودية ويرغبون بعدم معرفة أحد بها عادة ما يميلون إلى الإعراب عن مشاعر معادية لليهود لخدمة غايتهم في عدم إثارة الشكوك حول يهوديتهم وهو ما لم يفعله إيميري. فقد فضل إيميري الظهور بمظهر الإنكليزي المتشدد في وطنيته الإنكليزية لكي يخدم إسرائيل ويهوذا جنباً إلى جنب مع وينستون تشرتشل الذي أعجب بالصهيونية ووفر الدعم لها على غرار الصهيوني الأميركي الآخر الرئيس فرانكلين روزفيلت في ذلك الوقت. \r\n \r\n \r\n