\r\n في ظرف 17 شهرا فقط بعد انتهاء حرب والدي، كان المنتصرون قد رسموا حدود ايرلندا الشمالية ويوغوسلافيا ومعظم الشرق الأوسط. ولقد أمضيت معظم سنوات عمري المهني أتابع الناس داخل هذه الحدود وهم يحترقون.جلست ذات يوم مع مالكولم ماكدونالد، الوزير البريطاني الأسبق لشئون المستعمرات، لمناقشة تسليمه مرافئ المعاهد الايرلندية الى دي فاليرا قبل الحرب العالمية الثانية، حارما بذلك بريطانيا من ثلاثة موانئ عظيمة خلال معركة الأطلسي. \r\n \r\n وكانت تلك خطوة جلبت لماكدونالد ازدراء أبديا من جانب ونستون تشرتشل. لكن كان لابد لنا من الانتقال في نهاية المطاف للحديث عن محاولات ماكدونالد اليائسة لحل «مشكلة فلسطين» في الثلاثينيات. وفي مجلس العموم وقف تشرتشل غاضبا يشجب ماكدونالد لمحاولاته فرض قيود على هجرة اليهود الى فلسطين، ومازلت أحتفظ بالملاحظات التي دونتها في أوراقي خلال لقائي به. \r\n \r\n قال لي ماكدونالد يومها: «دار بيننا جدال ساخن جدا في مجلس العموم، وعندما التقينا بعد ذلك في ردهة الانتظار، اتهمني تشرتشل بالانحياز للعرب، وقال ان العرب أناس همجيون ولا يأكلون شيئا سوى روث الإبل. وكان بمقدوري ادراك انه لا جدوى من محاولة اقناعة بتغيير آرائه. \r\n \r\n وفجأة قلت له انني أتمنى لو كان لي ولد، فسألني لماذا وأجبته انني كنت أقرأ كتابا بعنوان «أوائل حياتي» من تأليف ونستون تشرتشل وكنت أتمنى لأي من أبنائي أن يعيش تلك الحياة. وفي تلك اللحظة ترقرقت الدموع في عيني تشرتشل، وضمني بذراعية قائلا «مالكولم.. مالكولم!». وفي اليوم التالي وصلني طرد بريدي من تشرتشل فيه نسخة تحمل توقيعه من أحدث مجلداته الصادرة من كتاب حياة مارلبورو. \r\n \r\n كان والدي معجبا بتشرتشل الى حد التقديس، ولقد توسل لأحد أصدقائه ليحصل على نسخة كتاب تحمل توقيع تشرتشل مهداة له. ولذلك احتفظ في مكتبتي اليوم بنسخة من كتاب «مارلبورو: حياته وأوقاته» كتب عليها «مهداة من ونستون تشرتشل، 1948» بخط يد تشرتشل نفسه. \r\n \r\n ومازلت أخرج هذا الكتاب من حين لآخر لأنظر الى عبارة الاهداء تلك وأتأمل حقيقة ان صاحب الخط هو الرجل الذي أرسل جيوشنا الى معركة غاليبولي، وصافح مايكل كولينز، وقف وحيدا ضد أدولف هتلر، وشن حملة لمناصرة الصهيونية في فلسطين، وأرسل الملك فيصل الى العراق كجائزة ترضية بعد خسارة سوريا التي أخذها الفرنسيون. \r\n \r\n «الوضع الذي واجه حكومة بريطانيا في العراق في بداية عام 1921، لم يكن مرضيا على الاطلاق» هذا ما كتبه تشرتشل في كتابه «الازمة العالمية: الآثار الكارثية» في معرض حديثه عن الانتفاضة على الحكم البريطاني. وفي تلك السنة نفسها كانت صديقته غرترود بيل تحاول تأسيس «حكومة عربية يدعمها مستشارون بريطانيون» في بغداد بحيث يصبح بمقدور جيش الاحتلال البريطاني مغادرة العراق. \r\n \r\n وكتبت بيل تقول: «لا أدري ماذا يبيت الحلفاء من نوايا مخادعة بشأن المفوضيات، لكنني بدون أي تردد أقف في صف عصبة الأمم في المطالبة بالافصاح عن تلك النوايا .. الجميع في أقاليم الفرات يقولون ان الناس هناك لن يرضوا بتعيين مسئولين من السنة ومجلس الحكم الانتقالي يمضي في تعيينهم.. وأخيرا قبل شيعي من كربلاء منصب وزير التعليم». \r\n \r\n حضرت بيل مؤتمر تشرتشل الشهير أو الشنيع في القاهرة حين قرر البريطانيون مستقبل معظم الشرق الأوسط. وبالطبع، كان حاضرا في المؤتمر تي اي لورنس ومعه كل من هب ودب من البريطانيين الذين ظنوا أنفسهم بارعين في فهم المنطقة. وكتبت بيل لاحدى صديقاتها بنبرتها المتحمسة المبالغ بها «كان مؤتمرا رائعا، وفي اسبوعين عالجنا موضوعات أكثر مما تمت معالجته في سنة كاملة، وكان تشرتشل رائعا». \r\n \r\n إنه فعلا أمر يثير الانبهار فلقد ظن البريطانيون ان بمقدورهم ترتيب أمور الشرق الأوسط وحل المشكلات العالقة في 14 يوما. وهكذا رسمنا حدود العراق ورسمنا المستقبل للنكبة «الكارثية» بفلسطين حسب تعبير تشرتشل نفسه لاحقا. ولن أنسى أبدا الطريقة التي كان يتحدث بها مالكولم معي في منزله قبل 26 عاما عندما قال لي «انني فشلت في فلسطين، ولذلك أنت الآن في بيروت». \r\n \r\n وبالطبع، فقد كان ماكدونالد محقا، فلو استطعنا فعلا ترتيب الشرق الأوسط كما ينبغي لما أمضيت ال 29 سنة الأخيرة من حياتي في السفر من حرب دموية إلى أخرى وسط أكاذيب وألاعيب قادتنا ووكلائهم الذين عينوهم ليحكموا العرب. ولو قمنا حقا بترتيب الشرق الأوسط، لما قتل كين بيغلي في العراق مؤخرا. \r\n \r\n هل نستطيع ان نهرب من ماضينا؟ هل يمكننا في يوم من الايام ان نقول نحن في الغرب وشعوب الشرق الاوسط «كفى! دعونا نفتح صفحة جديدة» أخشى اننا لا نستطيع ذلك. فخيانتنا ووعودنا الزائفة لليهود والعرب على حد سواء خلقت مرضا عضالا مستعصيا على العلاج. علة لن تزول ولا يمكن ان تزول ولن يغفر لنا المصابون بها لأجيال مقبلة. \r\n \r\n انظر، على سبيل المثال، كيف حرضنا صدام حسين على غزو ايران عام 1980، كيف ناصرناه ورعيناه طيلة سنوات الحرب الثماني، قدمنا له خلالها الصادرات بالدين والسلاح والطائرات والمواد الكيماوية لصنع الغازات. وعندما ننظر الى الوراء في الزمن الآن ندرك اننا كنا نفعل شيئا آخر. فبدعمنا لحرب صدام، كنا نساعد جيلا بأكمله من العراقيين ليتعلموا كيف يقاتلون ويموتون. \r\n \r\n اتصلت، مؤخرا، بصديق قديم لي في استراليا يدعى توني كليفتون. فلقد كنا أنا وهو نغطي الحرب الايرانية من كلا جانبي الجبهة. وقال لي كليفتون في المحادثة الهاتفية: «فكر في كل هؤلاء الملايين من العراقيين الذين تعلموا كيف يقاتلون جيشا كبيرا. كانوا يستخدمون دباباتهم كمواقع ساكنة ويوجهون سبطانات مدافعهم بشكل أفقي لوقف الايرانيين. لكن لم يكن يسمح لهم باستخدام مبادراتهم الذاتية. والآن بعد رحيل صدام، أصبح بوسع أولئك الضباط المتمرسين استخدام مبادراتهم ومقدراتهم القتالية ضد الأميركيين. أعتقد ان هذا هو سبب نجاح المقاومة الى هذا الحد». \r\n \r\n أعتقد ان كليفتون على حق، وان حرب الثمانية أعوام التي وفرنا لها نحن أسباب الاستمرار على ثقة وثيقة بما يجري حاليا في العراق وبالوحشية التي يتم انتهاجها من قبل المقاتلين العراقيين والقتلة الانتحاريين.وماذا عن الأميركيين أنفسهم؟ عكفت مؤخرا على اعادة قراءة التوصيف المذهل التي قدمه سيمور هيرش عام 1970 لمذبحة ماي لاي في فيتنام. ويبدو لي الآن الاعتياد على القتل والقسوة في فيتنام مشهدا مألوفا الآن. \r\n \r\n أرسل الأميركيون جيشا محترفا الى العراق، لكن الخطير في الأمر ان هذا الجيش ألف قتل النساء والأطفال في الفلوجة ودأب بكل بساطة على انكار ان غاراته الجوية تقتل الابرياء والاصرار على ان ال 120 شخصا الذين قتلوا في عملية سامراء جميعهم كانوا من «المتمردين»، وان كان من المستحيل تصديق هذا الكلام. \r\n \r\n ماذا عن أحدث مجزرة تقع في حفل زفاف، أهي «نجاح» آخر للأميركيين ضد الارهابيين؟ ولانه أصبح من الصعب جدا على الصحافيين التنقل في أنحاء العراق، لم يعد هناك أي شهود مستقلين على هذه الحرب الشنيعة. من يدري ماذا يجري الآن في الرمادي والحلة وجميع المدن الأخرى التي تقوم فيها القوات الأميركية بغاراتها الوحشية؟ \r\n \r\n توني بلير لا يزال يعتقد ان غزوه المشين للعراق لم يكن خطأ. ويبدو انه لا يزال يؤمن بنسخته الخاصة من «الحرب العظمى في سبيل الحضارة»، كما آمن بها والدي في يوم من الأيام. والآن أتساءل عن الأهوال التي تخبئها هذه الكارثة لأبنائنا وأحفادنا الذين سيسألون أنفسهم أيضا ما اذا كان بمقدورهم الهروب من التاريخ. \r\n \r\n