تحل, اليوم, الذكرى الخامسة والتسعون لصدور وعد بلفور المجرم, الذي منحت بموجبه بريطانيا الحق لليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين؛ بناء على المقولة المزيفة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)..إلا أنها تتزامن هذا العام مع حصول فلسطين على العضوية الكاملة في منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو). ويطالب الفلسطينيون في هذه الذكرى الأليمة التى حولتهم إلى لاجئين في دول شتى من العالم بالتوحد وإنهاء الانقسام الذي أدى إلى إضعاف الاهتمام بقضيتهم، في الوقت الذي ينفذ فيه الاحتلال الإسرائيلي سياسات فرض الأمر الواقع، ويقتطع يوما بعد الآخر أجزاء جديدة من الأرض الفلسطينية عبر سياسيات الاستيطان والتهويد. وعد بلفور حرم الفلسطينيين من الحرية ومن حقوقهم, وجعلهم يعيشون نكبات تلو الأخرى حتى الآن, حيث ظل الاحتلال البريطاني جاثما على صدورهم قرابة 31 عاما, ممهدا بشتى الوسائل والأساليب لقيام دولة إسرائيل على الجزء الأكبر من أرض فلسطين. في عام 1948 أعلن ديفيد بن جوريون قيام دولة إسرائيل، تجاوزا لقرار التقسيم الصادر في 29 نوفمبر 1947, والقاضي بقيام دولتين في فلسطين إحداهما للعرب والثانية لليهود، وتجاوزا لقرار حق العودة 194. جاء الوعد المشئوم على شكل تصريح موجه من وزير خارجية بريطانيا أنذاك "آرثر جيمس بلفور" في حكومة ديفيد لويد جورج في الثاني من نوفمبر عام 1917 إلى اللورد روتشيلد, أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية، وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى، حيث استطاعوا إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهدافها والحفاظ على مصالحها في المنطقة. "حين انفجرت الحرب على العالم, بدا مؤكدا أن البناء الصهيوني الصغير سيتحطم وتذروه الرياح", هكذا وصف أبرام ليون الكاتب الفرنسى ساخرا من الوضع في الحركة الصهيونية في بداية الحرب العالمية الأولى في كتابه تاريخ اليهود. وروج صاحب الوعد نفسه اللورد بلفور, النظرية الإنسانية تجاه اليهود، حينما زعم أن اليهود تعرضوا في أوروبا للطغيان والتعذيب, ولذلك كان الوعد تكفيرا عن الجرائم التي ارتكبتها أوروبا بحقهم (خطابه في مجلس اللوردات البريطاني في 21 يونيو 1922 كما أورده كريستوفر سايكس في كتابه "مفترق الطرق إلى إسرائيل" ص 18-19). ولكن هناك معطيات توضح الدوافع الجوهرية التي جعلت بريطانيا تصدر الوعد وتتمسك به. وقال إبرام ليون ساخر: إن بريطانيا كانت تشطب الوعد بسرعة لو استدعت مصالحها إعادة النظر في سياستها. ولذلك فمن المؤكد أن بريطانيا حين أصدرت الوعد أخذت في عين الاعتبار إمكانية استخدام الصهيونية في مواجهة حركة التحرر القومي العربية التي كانت قد بدأت تتبلور بوضوح وتتحول إلى حركة ذات جذور بين الجماهير العربية في سوريا والعراق وغيرها، وأن مصالح بريطانية إمبريالية عميقة جعلت بريطانيا تصدر الوعد وتتمسك به. وأكد لويد جورج في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" أن بعض ما حفز بريطانيا إلى إصدار الوعد, المعلومات التى توفرت إليها بأن قيادة أركان الجيش الألمانية في عام 1916 ألحت على الأتراك أن يلبوا مطالب الصهاينة بشأن فلسطين، وأن الحكومة الألمانية كانت في سبتمبر1917 تبذل مساع جدية للاستيلاء على الحركة الصهيونية". واستطرد لويد "إن جمعية يهودية ألمانية تأسست في يناير 1918 بعد وعد بلفور، وأن الوزير التركي طلعت، بإيعاز من الألمان، وعدها وعدا واهيا بتحقيق رغبات اليهود العادلة في فلسطين. ويؤكد كثيرون وبينهم حاييم وايزمن نفسه, أن كسب يهود أمريكا لبذل جهود في إقناع الولاياتالمتحدة بالوقوف إلى جانب الحلفاء, كان عاملا جوهريا في إصدار الوعد. وبدون التقليل من وزن هذا الاعتبار, فهناك ما يوحي بأن الوضع كان على العكس من ذلك، فقيادة الصهيونية البريطانية استنجدت بالصهاينة الأمريكيين ليقنعوا حكومتهم بالضغط على بريطانيا لتصدر تصريح بلفور. ثم إن توزيع آلاف نسخ الوعد بالطائرات على يهود روسيا القيصرية وبولونيا وألمانيا والنمسا والمجر، بما يوحي بأن أصحاب الوعد اعتقدوا أنهم بذلك يكسبون تأييد اليهود في روسيا ضد البلاشفة وفي دول المركز ضد حكوماتهم. جاء الوعد المزيف الذي اتخذ صورة رسالة من اللورد بلفور وزير خارجية بريطانية إلى اللورد روتشيلد: "إن حكومة جلالته تنظر بعين الارتياح إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي, وستبذل أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية, وليكن معلوما أنه لن يعمل شيء من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين, أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر, والمركز السياسي الذي حصلوا عليه". أما الصهيونية البريطانية فقد كانت تطالب بأن يأخذ بيان الحكومة البريطانية شكل اعتراف بحق اليهود التاريخي في فلسطين, وبفلسطين وطنا قوميا لليهود (لا وطنا قوميا يهوديا في فلسطين). كذلك لم تشمل المقترحات الصهيونية اعترافا بحقوق "غير اليهود" أو بحقوق اليهود في أي بلد آخر, الأمر الذي أصر عليه غير الصهاينة من اليهود. ومع أن الوقت كان مبكرا، فقد ظهرت في صيغة الوعد نوايا الإمبريالية البريطانية على محاولة مجابهة اليهود "بغير اليهود"! أي العرب وإقامة حكم "فرق تسد". وبين وعد بلفور ووعد أخذته المقاومة في فلسطين على نفسها باسترداد الأرض وتحريرها من عدو مغتصب, تم إلقاء الوعد كورقة سياسية لتشريع ما هو باطل..إلا أن قوة الشعوب وانتفاضة الحرية التي باتت عنوان المرحلة ستقيض كافة الوعود.