ففي الوقت الذي يصر فيه كل من الرئيس بوش، ورئيس الوزراء العراقي المؤقت إياد علاوي، على عقد الانتخابات في موعدها المضروب في الثلاثين من الشهر الجاري، سرت الأنباء عن أن مجموعة كبيرة من أعضاء المجلس الوزاري العراقي، ترى ضرورة تأجيلها، بسبب المخاطر التي تحيط بشرعية النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات، نتيجة لعدم مشاركة المسلمين السنة فيها. وقد طلب كل من الرئيس العراقي المؤقت غازي الياور، ومسؤول كبير من طائفة السنة، من الأممالمتحدة النظر في هذه المسألة. وكان الأصل أن تتحسن الأوضاع في العراق بعد الانتخابات، نتيجة لاختيار الجمعية الدستورية التي عبرها، تحت إشراف الأممالمتحدة. إلى جانب ذلك، فالانتخابات سوف تفتح الطريق أمام صياغة دستور جديد للبلاد، وانتخاب أعضاء البرلمان بنهاية العام الجاري. وبذلك تكون قد أسفرت هذه العملية، عن حكومة عراقية شرعية ومعترف بها دوليا. \r\n \r\n ومنذ أن بدأ القتال والمواجهات بين الجانبين هناك، كان المسؤولون الأميركيون والقادة العراقيون الذين حذوا حذوهم، قد أكدوا على أهداف معينة، من شأنها أن تؤدي إلى تهدئة الأوضاع، واستتباب الأمن هناك. في مقدمة هذه الأهداف، اعتقال صدام حسين، على افتراض أن ذلك سيؤدي لإطفاء نار التمرد والقتال. إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث. ثم كان الهدف الثاني هو نقل السيادة إلى العراقيين. والملاحظ أن هذا الانتقال قد تم باعتباره حدثا خاويا من المضمون في الأساس، وجرى تسليم السيادة دون مراسم أو طقوس احتفالية، داخل المنطقة الخضراء المحصنة. أي أنه تم في عزلة تامة عن الشعب والعراقيين المعنيين بالأمر. الهدف الثالث هو سحق الانتفاضة الشيعية التي قادها الزعيم المتمرد مقتدى الصدر، في كل من النجف وبغداد. وكان القادة الأميركيون قد طالبوا إما باستسلامه أو بقتله. \r\n \r\n إلا أن تلك المواجهات انتهت أخيرا بإبرام اتفاق، توسطت فيه شخصيات شيعية بارزة بين الجانبين، أوقف بموجبه المتمردون الشيعة هجماتهم، مقابل الحصول على بعض التنازلات السياسية. وبما أن مقتدى الصدر لم يمسس بسوء في تلك المواجهات، ولا تزال حركته في مكانها، فإنه ليس مستبعدا أن يحافظ على أهميته ووزنه السياسي. \r\n \r\n الهدف الرابع والأخير هو استعادة الفلوجة وتأمينها من سطوة المتمردين. وكانت قوات المارينز الأميركية قد منيت بهزيمة ماحقة في تلك المدينة، التي يزعم أنها مقر القيادة العامة لقوات التمرد السني، التي تعمل بيد واحدة مع كل من مقاتلي وجماعة أبو مصعب الزرقاوي، الممثل لتنظيم القاعدة في العراق. وكان قد أخطر المواطنين بإخلاء المدينة، تمهيدا لاحتلال قوات المارينز لها. لكن ووراء هذا القرار الذي اتخذ فيما يبدو، في أروقة البيت الأبيض في واشنطن، مدفوعا بانفعال المسؤولين هناك، وغضبهم إزاء التحدي العسكري الذي مثلته هذه المجموعات أمام الإدارة الأميركية، يكمن الزيف والأكاذيب القديمة حول الحروب والمعارك غير النظامية. ويتمثل هذا الزيف والأكاذيب في القول إنه في وسع القوة الضاربة للجيش التقليدي، أن تطوق وتسحق سحقا تاما، حروب العصابات أو الانتفاضات والهبات الشعبية ذات الطابع الحزبي. وعلى رغم رسوخ هذه الأكذوبة في عقول كبار المسؤولين والقادة الأميركيين، إلا أنه من الصعب جدا أن يجد لها المرء، دليلا في مجمل التاريخ الحربي الطويل... إلا ما شذ وندر. \r\n \r\n ولم يكن المقاتلون العراقيون بأدنى حاجة لاستشارة أو استلهام عمليات أو أفكار تي. إي. لورانس –الملقب بلورانس العرب- الذي كان المهندس والعقل الاستراتيجي المدبر لحركة التمرد العربي، كي يدركوا أن القاعدة الأساسية في كل حرب هي: إياك وخوض القتال ضد العدو، وفقا للشروط التي يحددها هو. وتقول الترجمة العملياتية لهذه القاعدة: إياك أن تصمد وتقاتل، ما لم يكن الهدف الوحيد هو توجيه ضربة موجعة وكبيرة لعدو قوامه جيش تقليدي جرار، ثم اهرب مباشرة بعد تحقيقك ذلك الهدف التكتيكي. وعليك أن تختفي عن الأنظار دائما، كي تكون قادرا على خوض معركة جديدة في اليوم التالي. تطبيقا لهذا المبدأ، فكثيرا ما ظهر \"حماة الفلوجة\" في أماكن أخرى من العراق، في الموصل وسامراء وغيرهما. وفي كل مرة، يفتحون معارك ومواجهات جديدة، حسب الجيش الأميركي أنه حقق فيها نصرا ساحقا. بل لا بد من القول إنه لم يتم تطهير الفلوجة نفسها من المتمردين والمقاتلين حتى هذه اللحظة. غير أن تلك المدينة الكبيرة التي كانت تؤوي يوما نحو 250 ألف مواطن عراقي، قد تحولت إلى خراب وأطلال وحطام. ومن أسف أن غالبية أولئك الذين لحق الدمار ببيوتهم وممتلكاتهم، من المسلمين السنة الذين لم يكونوا طرفا في القتال. \r\n \r\n عودة إلى سؤال حول ما إذا كان من الواجب تأجيل الانتخابات العراقية المرتقبة، نقول إن هذا السؤال يرد عليه بسؤال آخر: لم الإصرار أصلا على تحسن الأوضاع الأمنية قبل الانتخابات الآن، في حين أن الاتجاه العام منذ غزو العراق، هو تردي وتدهور الأوضاع الأمنية؟ التأجيل إذن، هو رديف للفشل، ليس إلا. فحتى أكثر المتفائلين بإمكان إحراز تقدم عسكري على المتمردين، لم يعودوا بكل ذاك اليقين والتفاؤل الذي كان من قبل. \r\n \r\n وإن كنتم تريدون رأيي، فإن التعجيل بإجراء الانتخابات هو الخيار الصحيح، ليس لأنها انتخابات ستسفر عن نتائجها المرجوة، مثلما زعمت الإدارة، ولكن لكونها توفر مخرجا ضروريا لمغادرة القوات الأميركية والأجنبية للعراق، وبالتالي مدخلا لاستقلال العراق وتسوية أزمته. فالحقيقة التي لا مراء فيها –والتي لا يعترف بها أي من مسؤولي واشنطن والحكومات المتحالفة معها- هي أن استمرار وجود القوات العسكرية الأجنبية في العراق، لا يسهم في حل الأزمة العراقية، بل يزيدها سوءا على سوء. والسبب أن هذا الوجود الأجنبي، هو نفسه مصدر الأزمة وعلتها. فواقع الاحتلال هو الذي يفرز المقاومة والتمرد. وبما أن هذه هي الحقيقة الناصعة نصوع الشمس، فإن مغادرة قوات الاحتلال لأرض العراق، تمثل شرطا ضروريا لا غنى عنه، في سبيل استعادة العراق لأمنه واستقراره. \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز\" \r\n \r\n