وقد سمي هكذا، لأن الهدايا والهبات تقدم فيه للناس بعد وضعها في صناديق. وعلى الرغم من أن التعبير الإنجليزي المقابل للكلمة هو \"Boxing\"، إلا أنه لا علاقة للكلمة البتة برياضة الملاكمة، هذا مع أنه يحتوي على عدد من الرياضات الإنجليزية التقليدية مثل كرة القدم، وسباق الخيول، وغيرها من أنواع الرياضات. وعموماً فهو يوم للاسترخاء والترفيه. لكن على أية حال، فإن لهذا اليوم، هذا العام، ملمحاً سياسياً، على الأقل فيما يتصل بالأحداث المهمة الجارية في جمهورية أوكرانيا الحديثة نوعاً ما، والبالغة الأهمية حالياً. ذلك أن المحكمة العليا الأوكرانية، قد قضت بتحديد هذا اليوم، موعداً لإعادة الانتخابات الرئاسية التي كان قد سبق أن جرى التنافس عليها. لذا فهو يوم الفصل في تسوية النزاع السياسي بين معسكر \"فيكتور يانكوفيتش\"، رئيس الوزراء الحالي الفاسد، الموالي للروس وسريع الزوال فيما يبدو، وحركة الإصلاح السياسي الواثقة المتحمسة، التي يقودها \"فيكتور يوتشينكو\"، الذي جرى التآمر عليه وتسميمه. ولهذا السبب، فإن يوم \"الصندقة\" هذا العام، سيكون يوماً للمعنى الحرفي لكلمة \"الملاكمة\" السياسية، ولكن على أمل أن يقتصر تبادل الضربات واللكمات، على صناديق الاقتراع وحدها. \r\n \r\n ولما كانت كل المؤشرات، تشير إلى أن \"يوتشينكو\" سيحقق نصراً ساحقاً في الانتخابات المعادة هذه، فإن من الأحرى أن نتأمل ما يعنيه ذلك بالنسبة لجمهورية أوكرانيا، ولروسيا، وللغرب أيضاً. وفي هذا الشأن، لعل أكثر مواد الحديث إثارة للاهتمام، ما أدلى به \"يوتشينكو\" من تصريحات صحفية، خلال اللقاء الذي أجرته معه صحيفة \"فاينانشيال تايمز\" اللندنية في الحادي عشر من شهر ديسمبر الجاري. ففي ذلك اللقاء، حدد \"يوتشينكو\" الملامح العامة لرؤيته وتطلعاته الخاصة باكتساب أوكرانيا العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. ومما قال به \"يوتشينكو\" في هذا الخصوص إن على الاتحاد الأوروبي أن يعترف بتحول أوكرانيا إلى اقتصاد السوق، وإن على أوكرانيا الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، كما عليها أن تصبح عضواً مشاركاً في الاتحاد الأوروبي، قبل اكتسابها العضوية الكاملة في نهاية المطاف. ومما لا شك فيه أن هذا الطموح، يعد واحداً من أكثر الانقسامات شداً للانتباه في التاريخ الحديث. \r\n \r\n لماذا؟ لنقلها مباشرة: لم تكن هرولة أوكرانيا باتجاه الغرب، شبيهة بأي من تجارب دول أخرى مثل فنلندا، والمجر، وبولندا، وغيرها كثير من الدول، خلال العقود الأخيرة الماضية. فالملاحظة على هذه الدول جميعاً، أنها تقع إما في الحدود المتاخمة لروسيا الإمبريالية، أو الاتحاد السوفيتي سابقاً. وأحياناً كانت هذه الدول تتمتع بالاستقلال والسيادة، بينما تكون أحياناً أخرى تحت عباءة إمبراطورية موسكو. غير أن الجميع يعلم أن الدول المذكورة جميعاً، تختلف ثقافياً وتاريخياً ولغوياً عن روسيا، وأنها مختلفة عنها، اختلاف الجزائر عن فرنسا في سابق العهد الاستعماري. ولهذا فإن خسارة روسيا لأوكرانيا - عقب استقلال الأخيرة عنها- لم تكن بمثابة صدمة كبيرة للروس. ولكن أن تخسرها لصالح الاتحاد الأوروبي، ومن ثم لصالح الغرب عموماً، بما في ذلك للدولة الغربية البعيدة، الواقعة في قارة أميركا الشمالية وفي دائرة الريبة والشك الروسي دائماً، فذاك أمر آخر وجد مختلف. ولذلك فإن علينا جميعاً أن نقبض أنفاسنا هنا، ونقف متحفزين لما يجري. \r\n \r\n إنه لمن السهل أن نعتقد أنه في الإمكان أن نرد الغضبة الروسية إزاء الفوز الساحق للمرشح الديمقراطي \"يوتشينكو\"، بكل سهولة إلى نهج الرئيس الروسي \"بوتين\"، المعادي للديمقراطية، وإلى شعوره بمرارة ظهوره أمام الملأ بمساندته العلنية لجواد \"يانكوفيتش\" الخاسر. إلا أن تفسير ذلك الغضب، له جذور وأعماق أبعد من ذلك بكثير. \r\n \r\n فبعد كل شيء، كانت أوكرانيا وعاصمتها \"كييف\"، على امتداد أكثر من 800 عام، القلعة الرئيسية لآخر دولة روسية، نمت وترعرعت حتى صارت إمبراطورية روسية قيصرية. لذلك فإن خسارتها لا تقل عن خسارة الولاياتالمتحدة الأميركية لجزء عزيز عليها مثل \"نيو إنجلاند\"، أو خسارة ألمانيا للجزء الغالب من إقليم بروسيا. ولإبراز الصورة الأكثر تعقيداً للوضع هناك، فإن المحافظات الشرقية الأوكرانية، تنتمي جميعها إلى الأرثوذكسية الروسية، وأكثر ولاءً لموسكو- على الرغم من أنها جميعاً تشكل أقلية أوكرانية- في حين تدين المحافظات الغربية، المؤيدة ل\"يوتشينكو\"، بالديانة الكاثوليكية، وتتسم باستقلالها الذهني وبميلها إلى الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً. وفيما لو غذى الكرملين هذا الانقسام السياسي الآيديولوجي والديني في أوكرانيا، فإن من شأن ذلك أن يهدد بتحويل نماذج النزاعات التي جرت بين الصرب والكروات، مثلا، إلى نماذج لا يأبه لها حتى. \r\n \r\n ثم عليك أن تأخذ ببعض النقاط المهمة الواردة في التقرير المنشور الذي أعدته مؤسسة \"استراتيجيك فوركاستنج\" -أي التنبؤات الاستراتيجية- ونشر في العاشر من الشهر الجاري تحت عنوان \"التقرير الاستخباراتي الجيو سياسي: روسيا: وراء أوكرانيا\". وكما يذكرنا مؤلفه \"بيتر زيهان\"، فإن الجزء الغالب من البنية التحتية الروسية، يرتبط بأوروبا، علاوة على أن خط أنابيب غازها الطبيعي، يمر بأوكرانيا. أما الأسطول البحري الروسي الرئيسي، فقاعدته في \"سيفاستوبول\" الواقعة في شبه الجزيرة الأوكرانية. إلى كل ذلك، فقد ظلت أوكرانيا دائماً، بمثابة سلة غذاء لأجزاء واسعة من روسياالغربية. ومع أنه يمكن الاسترسال في هذه التفاصيل إلى ما لا نهاية، إلا أن الفكرة الواضحة هي أن انفصال أوكرانيا عن روسيا، وانضمامها إلى الغرب، سيكون بمثابة ضربة للكرملين وإهانة لروسيا، لا تعادلهما أي من الضربات والإهانات التي تلقتها روسيا، خلال السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي. \r\n \r\n وستحتفظ هذه الحقيقة بصحتها، بصرف النظر عن نوع النظام القائم في موسكو. بيد أن انفصال أوكرانيا والتحاقها الكامل بالغرب، في هذا الوقت بالذات، يمثل ضربة وتحدياً كبيراً لحكومة الرئيس الروسي الحالي، \"فلاديمير بوتين\"، التي تزداد شمولية وطغياناً يوماً إثر الآخر. ومع هذه الانتكاسة السياسية التي تمر بها روسيا الآن، فإن على الأرجح أن تنضم أوكرانيا إلى ركب الديمقراطية الليبرالية الغربية، في حال فوز \"يوتشينكو\" بالجولة الانتخابية الرئاسية المعادة هذه. لكن للأفكار الليبرالية، في بعض الأحيان، طاقة مزلزلة إلى درجة مروعة، مثلما هو حال الثورتين الفرنسية والروسية. غير أنها حققت نجاحاً باهراً لا غبار عليه، في الكثير من الحالات الأخرى. وفيما لو حققت أوكرانيا خلال عقد من الآن، ذلك الاقتصاد المزدهر ونمط الحياة الجذاب، الذي تتسم به دولة مثل المجر، فإن ذلك سيبعث برسالة سياسية يومية إلى قطاعات واسعة من الشعوب الروسية. \r\n \r\n لكن وبالنظر إلى كل مشكلات السياسة الخارجية التي تواجهها الولاياتالمتحدة اليوم، وكذلك أخذاً بحالة العصاب التي تسيطر على \"فلاديمير بوتين\"، واعتقاده بأن واشنطن تمارس سياسة \"التطويق\" على بلاده، فإن من الأفضل لأميركا أن تخفض حجم تدخلها فيما يجري في أوكرانيا. يعني هذا أن عليها أن تترك الأمر للاتحاد الأوروبي. وبذلك، فلن تشعر موسكو بغصة المرارة والإهانة الأجنبية، في حين يتمكن الاتحاد الأوروبي من تقديم ما يلزم من دعم لقوى الديمقراطية والتحول الليبرالي في يوم \"الملاكمة\" الأوكرانية، الذي يتم فيه انتخاب الحكومة الأوكرانية القادمة. \r\n \r\n وبهذه المناسبة، نذكر أن \"تيموثي جارتين آش\"، أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة \"أوكسفورد\"، هو القائل مؤخراً، إن من الأرجح أن تكون القوة الناعمة الأوروبية -التي طالما استهجنها واستخف بها صقور المحافظين الجدد في واشنطن- أداة أكثر فاعلية من \"القوة الخشنة\" الأميركية، في الترويج للديمقراطية، ونشرها على نطاق العالم. إن صح هذا القول، فربما يكون للتحول الواسع النطاق الذي تشهده كل من رومانيا، وبلغاريا، وأوكرانيا، وتركيا باتجاه الاتحاد الأوروبي، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حدثاً سياسياً، يفوق أهمية، كل التطورات المحمومة، الجارية الآن في منطقة شرق آسيا. \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز\" \r\n