\r\n وفي الواقع فإن النموذج الذي يسطع في ذهن شيراك، هو \"محور فرنسي- ألماني\"، كان له الفضل في إزالة الجفوة والخصومة بين هذين العدوين اللدودين، فضلا عن كونه الماكينة المحركة، لتكامل ووحدة القارة الأوروبية، على مدى نصف القرن الماضي. وفي العام المقبل 2005، يخطط الرئيسان الفرنسي \"جاك شيراك\"، ونظيره الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، لتوقيع معاهدة صداقة بين بلديهما. وترمي هذه المعاهدة، إلى إبرام صفقة شراكة بعيدة المدى بين البلدين، في مجالات الاستثمار، والهجرة، والتنمية الاقتصادية، والتعليم، والأمن والدفاع، وغيرها من أوجه التعاون والشراكة المختلفة. \r\n والشاهد أن ما عجل بمبادرة الفرنسيين هذه، رؤيتهم لازدياد رغبة أميركا وحماسها الملحوظين، نحو الجزائر. ويعود هذا الحماس إلى عاملين اثنين هما، ما للجزائر من موارد واحتياطيات هائلة من النفط والغاز، إلى جانب رؤية بعض استراتيجيي واشنطن للجزائر، باعتبارها نقطة انطلاق قوية في حرب الرئيس بوش، خلال ولايته الثانية، ضد التطرف الإسلامي. والحقيقة أن لهذه الشراكة الفرنسية الجزائرية المقترحة، أهدافاً أخرى، عدا عن تلك المذكورة أنفا. فهي ترمي فوق كل شيء وقبله، إلى لأم جراح مئة وسبعين عاماً من العلاقات العاصفة الملتهبة بين البلدين، وهي العلاقات التي كانت قد بدأت في عام 1830، حين وطئ الجنود الفرنسيون لأول مرة، أرض السواحل الجزائرية، ووضعوا أيديهم عليها بقوة السلاح، وانتزعوها من قبضة الإمبراطورية العثمانية. \r\n \r\n وهذا أحد الأسباب، التي تجعل فرنسا لا تألو جهدا، في سبيل إبرام هذه الشراكة الجديدة، وإنجاح المعاهدة التي تقوم عليها. يذكر أن \"شيراك\" زار الجزائر مرتين، واستقبل فيها استقبالا حافلا لا يصدق، بينما أشيد بالرئيس الجزائري بوتفليقة، ونظر إليه على أنه قائد معتدل وحكيم، في وسعه قيادة بلاده وإخراجها تدريجياً، من نفق نظام الحزب الواحد، الذي ظلت ترزح فيه على امتداد نصف قرن كامل منذ استقلالها الوطني. ومن ذلك النظام الذي رسخته القبضة العسكرية على البلاد، يستطيع بوتفليقة قيادة دفة السفينة، إلى بديل ربما كان الأقرب إلى الديمقراطية الحقيقية. وتأكيدا لروح ومؤشرات المصالحة الوطنية التي بدأت هناك، عاد القائد القبلي حسين آيت أحمد، مؤخراً بعد خمسة أعوام قضاها خارج الجزائر في منفاه. ونعى هذا القائد على بلاده علنا، هزيمتها لحلم الاستقلال، الذي نالته من الفرنسيين في عام 1962، مبدياً في الوقت ذاته، حزنه وأسفه على الطلاق البائن فيها، بين مفهومي الحرية والاستقلال. \r\n \r\n وفي الأول من نوفمبر الجاري، كانت الجزائر قد احتفلت بالذكرى الخمسين، لاندلاع انتفاضتها المسلحة، في الأول من نوفمبر من عام 1954، وهي الانتفاضة التي وضعت حداً للاستعمار الفرنسي للبلاد، بعد معارك دامية، استمرت لسبع سنوات متتالية. وما من دولة عربية أخرى، ضاهت الجزائر في مهر الاستقلال الغالي الذي دفعته في حربها ضد الاحتلال الفرنسي. فما الانتفاضات العراقية والهبات التي حدثت هناك ضد الاحتلال البريطاني خلال الأعوام 1920، و1941، سوى مناوشات صغيرة، لا تقف إلى جانب ما بذله الجزائريون من تضحيات جسام، من أجل نيل استقلالهم عن المستعمر الفرنسي. وحال العراقيين نفسه، ينطبق على المعارك الوطنية التي خاضها السوريون واللبنانيون ضد الانتداب الفرنسي، بين الحربين العالميتين. بل وأكثر من ذلك، يمكن القول إن النضال الجسور الذي خاضه القائد القومي جمال عبدالناصر نفسه في عقد الخمسينيات، بغية تحرير مصر من آخر ما تبقى من جيوب نفوذ للاستعمار الإنجليزي، لا يرقى بأي حال، إلى مستوى تجربة الاستقلال الجزائري. \r\n \r\n وحدهم الفلسطينيون، الذين لا يزال عليهم نيل استقلالهم من إسرائيل، والذين خسروا الجزء الأعظم من أراضي بلادهم، يستطيعون الجهر بأنهم الأقرب في تضحياتهم ومعاناتهم إلى الشعب الجزائري. أما العراقيون، فهم آخر ضحايا الإمبريالية الغربية. فقد ألحق الغزو الأميركي-الإنجليزي الأخير بديارهم الخراب والدمار، ولا يزالون يكافحون من أجل تخليصها من براثنه، وطرد الغازي المحتل منها، منذ العام الماضي 2003. يذكر أن اتفاقات \"إيفيان\" كانت هي التي أعطت الجزائر استقلالها من الفرنسيين في عام 1962. وكان ستة من القادة الجزائريين، هم الذين أشعلوا نار المقاومة المسلحة فيها عام 1954: مصطفى بن بلعيد، رابح بيطاط، محمد بوضياف، العربي بن مهيدي، مراد ديدوش، وكريم بلقاسم. وهؤلاء هم \"القادة التاريخيون\" للثورة الجزائرية، وقد لقي خمسة منهم مصرعهم في موتة بطولية عنيفة إما خلال الحرب، أو إبان أحداث العنف التي اندلعت على إثرها. ولم يبق منهم سوى واحد، هو رابح بيطاط. \r\n \r\n أما احتلال فرنسا للجزائر، وبسط نفوذها عليها، فقد اتسما بالوحشية والعنف. ذلك أن التقديرات قد ذهبت إلى أن ثلث الشعب الجزائري، لقي حتفه، خلال الأعوام الممتدة بين 1830-1860! أما انتفاضة 1954، فقد سحقها الفرنسيون على أجساد عشرات الآلاف من الجزائريين. وقد ساء معظم الجزائريين الذين حاربوا إلى جانب الفرنسيين، في وحدات \"فرنسا الحرة\" خلال الحرب العالمية الثانية، ما رأوا من معاملة الفرنسيين، وتحول الكثيرون منهم إلى متمردين عليها. ولنقدم لذلك مثالا واحداً، هو الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلا، الذي كان قد توج صدره بنياشين الشرف العسكري في \"مونت كازينو\" خلال الحملة الإيطالية! \r\n \r\n وخلال حرب التحرير الجزائرية 1954-1962، لطخت فرنسا يديها، ودنست سمعتها، بلجوئها إلى ممارسات التعذيب الوحشية الفظة. وبعد الحرب مباشرة، هرب من الجزائر حوالي مليونين من الأوروبيين، الذين جعلوا من الجزائر موطناً لهم، وإلى جانبهم عدد كبير من الجزائريين، الذين تعاونوا مع الفرنسيين. وهؤلاء الأخيرون، يطلق عليهم اسم \"الحركيين\". أما الذين لم يستطيعوا الفرار، فقد لقوا مصرعهم في أكبر مجزرة ارتكبها الفرنسيون، ذهب البعض إلى تقدير عدد ضحاياها، بنحو 100 ألف قتيل. وعلى صعيد تتالي المآسي اللاحقة على هذا البلد وشعبه، فقد ذهب البعض إلى تقدير ضحايا مواجهات العنف الدامية التي حدثت فيما عرف ب\"الحرب القذرة\" التي شنها الجيش الجزائري على الإسلاميين المتطرفين في عقد التسعينيات، بنحو من 200 ألف مواطن جزائري. هذا عدا عن ممارسات العنف والمجازر التي سبقت وأعقبت الانتخابات الجزائرية التي جرى إلغاؤها، وكادت تصل بالمتطرفين الإسلاميين إلى دفة الحكم. \r\n \r\n ولما كانت الجزائر قد عدت طوال السنوات الممتدة بين 1830 و1962 جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الفرنسية، فقد كان الانفصال صدمة كبيرة وقاسية، على كلا الطرفين. وفي فرنسا كانت الجمهورية الخامسة قد ولدت من لهيب الحرب الجزائرية. وفي عام 1958، لجأ الجنرال \"ديجول\" للعنف والقوة، كوسيلة لوضع حد للنزاع الدائر في الصحراء هناك. وكانت خسارة الجزائر، خسارة فادحة لحلم فرنسا باستقلالها النفطي، لكونها خسرت حقول النفط التي تزخر بها الصحراء الجزائرية. غير أن استقلال الجزائر عن الفرنسيين لم يحقق نجاحاً على الصعيد الوطني. فعلى الرغم من عائدات النفط والغاز الكبيرة، واحتياطات النقد الأجنبي المقدرة بنحو 50 مليار دولار، لا يزال نصف المجتمع الجزائري البالغ تعداده 32 مليون نسمة، يعيش حد الكفاف والفقر، بينما ترتفع البطالة لتطال 30 في المئة من اليد العاملة فيها! ولهذا فما أكبر التطلعات والطموحات المنتظرة من الشراكة الفرنسية- الجزائرية التي ينوي إطلاقها في العام المقبل، كل من شيراك ونظيره الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.