كما قد يتبادر إلى الذهن. فتلك مسألة منهجية لا أكثر. بل يدور الخلاف الرئيسي، بين من يؤمنون بأن من شأن الدمار أن يفتح أبوابا ونوافذ جديدة للإصلاح، وبناء عالم أفضل، وأولئك الذين هم على شاكلتنا وأمثالنا، ممن لا يرون في الدمار شيئا آخر سوى الدمار. وهذه الفئة الأخيرة ترى أنه في حال إقدام دولة ما على إلحاق دمار كبير الحجم، وواسع النطاق بدولة أخرى، فإن النتيجة النهائية لذلك، هي تحمل تلك الدولة لمسؤولية باهظة التكلفة، عن الدمار الذي تسببت فيه. ويذكر هنا أن كلتا الحربين العالميتين السابقتين، كانت قد أضرمت شرارتهما القوى التي تؤمن بمقولة أن الدمار، هو الذي يفتح السبيل أمام تحقيق حلم طوباوي. وكانت تلك هي قناعة الوطنيين الصرب، والتوسعيين الألمان، عشية اندلاع الحرب الأولى في عام 1914، وكذلك قناعة الحكومة النازية في عام 1939. \r\n يلزم هنا التمييز بين نظرتين متعارضتين للدمار، تصدر أولاهما عمن لديهم تطلعات وطموحات طوباوية، ويزعمون أنه ما من سبيل آخر لتحقيقها، إلا بواسطة القوة والعنف. وأولئك الذين يؤمنون بالنهج الذرائعي الغربي، الذي يرى في المجتمع كيانا اجتماعيا هشا وضعيفا، يعجز عن إعادة تشكيل نفسه ذاتيا بمجرد إلحاق الدمار به، علما بأن الدمار عادة ما يعيد تشكيله على نحو أفضل. \r\n \r\n والمعروف عن مجموعة المحافظين الجدد في واشنطن، أنها سوقت خلال العقد الأخير من القرن الماضي، لمنتجاتها الفكرية والآيديولوجية، المتمثلة في نظرتها وتطلعاتها الطوباوية، التي لن تتحقق إلا بواسطة العنف. ومما يؤسف له أن عددا لا يستهان به من الديمقراطيين، قبلوا تلك البضاعة على نحو أو آخر، وبدرجات متفاوتة. وضد هذه الفكرة، يعلن المرشح الديمقراطي جون كيري، شجبه للسياسات الخارجية التي تنتهجها إدارة بوش، بكل ما اتسمت به تلك السياسات من أحادية وفردية، ويعد بإعادة بناء العلاقات والتحالفات الأميركية، وكسر طوق العزلة الذي فرضته الإدارة على نفسها. ولكن الملاحظ أن كيري ومؤيديه في الحزب الديمقراطي، لا يوضحون للجمهور، الكيفية التي سوف يحققون بها هذه الأهداف، دون إحداث تغيير جذري في السياسات الخارجية الأميركية القائمة حاليا. والملاحظ أن الحزب الديمقراطي ومرشحه كيري، يقبلان المسارات الرئيسية التي تمضي فيها السياسات الحالية، سواء فيما يتعلق بالعراق، أم النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، أم الحرب الدولية المعلنة على الإرهاب من قبل واشنطن. \r\n \r\n وكما هو معلن من قبل الإدارة الحالية، فإن الهدف الرئيسي للحرب على الإرهاب، هو تدمير خلايا الشبكات الإرهابية الدولية، ثم إلحاق الدمار والأذى بها، أو قتل قادتها وزعمائها من المتطرفين الإسلاميين، الذين ينصبون أنفسهم أعداء للولايات المتحدة الأميركية. ولكن للأسف، فإن مثل هذه الجماعات، تعد في العالم الإسلامي المعاصر، الجماعات والحركات الآيديولوجية الأكثر ديناميكية، ونشاطا هناك. والجيد في السياسات الخارجية المعلنة من قبل واشنطن حاليا، أنها ترمي إلى إحلال البنى والهياكل الاجتماعية والسياسية التقليدية القائمة حاليا، في العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط، ببنى وهياكل ديمقراطية جديدة. والاعتقاد الذي يسند هذا الاتجاه، هو أنه في حال بناء بنى وهياكل جديدة، فإن ذلك سوف يكون كفيلا بتجفيف منابع الإرهاب، وقطع موارده. ولكن سواء جرت إعادة انتخاب الرئيس بوش لدورة رئاسية جديدة، أم حل محله رئيس آخر، فما من أحد منهما، يتمتع بالموارد المادية والفكرية اللازمة لتحقيق هدف كهذا. ثم إن هذا الهدف نفسه، لن يكون ممكنا ولن يتحقق، إلا من خلال التطور الداخلي المستقل، للمجتمعات الإسلامية في المقام الأول. \r\n \r\n وفيما يبدو فإن الإطاحة بنظام صدام حسين، كانت بمثابة الخطوة الأولى نحو تحقيق هذا المشروع الكبير، الذي آلت الولاياتالمتحدة على نفسها تحقيقه. غير أن ما قامت به في الواقع، هو تدمير العراق، ككيان سياسي اجتماعي، كان قادرا على أداء دوره ووظيفته. وبتعيينها إياد علاوي رئيسا للوزراء، فإن صورة واشنطن بدت بمظهر من يصر على تنصيب نظام مستبد شمولي آخر، تحت إشرافها ومباركتها هذه المرة! وهذه هي السياسة التي تعلن واشنطن نفسها، أنها لا تحظى بدعم الغالبية العظمى من أشد وأقرب حلفائها طوال فترة الحرب الباردة، فضلا عن رأي الشعوب والدول غير الغربية. وهذا ما لا تستطيع إدارة كيري أو أي أحد سواه، أن تغيره بمجرد تبني نهج دبلوماسي، أكثر ودا وصداقة تجاه الآخرين. فإن كان ثمة تغيير يؤمل فيه، فهو التغيير الوحيد، الذي يجب أن يحدث انقلابا جوهريا في السياسات المذكورة بكاملها. \r\n \r\n فلن يغير شيئا في موقف الحلفاء الأوروبيين من السياسات القائمة، أي نهج أميركي آخر، يزعم لنفسه الجماعية، طالما ظلت واشنطن، ماضية في سياساتها القائمة على استخدام القوة العسكرية، وسيلة لإحداث تغييرات جذرية في المجتمعات الإسلامية، وفي أنماط ثقافتها السياسية التقليدية. وسواء في ظل إدارة بوش أم كيري، فإن مصير الحلفاء الثانويين الذين يضعون أيديهم في يد الولاياتالمتحدة مكرهين أو مرغمين، هو الانحسار والزوال، طال الزمن أم قصر. فالمنطق يقول إن المصلحة القومية والجبهات السياسية الداخلية لتلك البلدان، سوف تحتمان عليها الانسحاب من التحالف مع الولاياتالمتحدة، تقديما لمصلحتها القومية على تحالفها مع واشنطن. وفي هذا الصدد، يذكر أن الفلبين كانت من آخر الدول التي انسحبت من تحالفها مع واشنطن، متسائلة عن جدوى ذلك التحالف أصلا؟ والشاهد أن انسحاب الفلبين الأخير، لا يقتصر على مجرد تحرير مواطنها الذي كان رهينة بيد مختطفيه فحسب. فقد بات تحالفها مع واشنطن، يمثل تهديدا مباشرا لعشرات الآلاف من رعاياها العاملين في منطقة الخليج وغيرها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وليس العراق وحده. وتضاف إلى هذه الحقيقة، حقيقة أخرى، مفادها أن تحويلات هذه الأيدي العاملة الفلبينية في الخارج، تعني الكثير جدا، بالنسبة للاقتصاد الوطني الفلبيني. فلمَ المخاطرة والتضحية بالمصلحة الوطنية، مقابل لا شيء في التحالف مع واشنطن؟ وإن شاء كيري أو غيره، تغيير مثل هذه السياسات، فهذه فئة من أنماط الأسئلة التي يتعين عليه وضعها نصب عينيه، وتسجيلها في أعلى جدول أسبقياته وأولوياته. \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز\"