السياسة لا تعرف الأخلاق.. هذا ما يؤكده خبراؤها وممارسوها, وفي هذا الإطار يمارس زعماء الديمقراطيات الكبري كما يدعي العرب استراتيجية منظمة للكذب ظهرت في العقود الماضية في الولاياتالمتحدةالأمريكية بفجاجة شديدة. وصاحب ذلك الدفاع عن الكذب الدولي وخداع الآخرين بما في ذلك الشعب الأمريكي, بل كان له الأولوية في مسرحية الكذب التي كانت تسبق الحروب الكبري لإظهار أنها ضرورة لابد منها, بل ذهب بعض الرؤساء الأمريكيين للادعاء بأن الكذب كان واجبا أخلاقيا لتحقيق مصلحة أمريكا وأمنها. كطلقات الرصاص جاء كتاب لماذا يكذب الزعماء؟ للمؤلف الأمريكي جون مير شامير أستاذ العلوم السياسية والمدير المشارك لبرنامج سياسة الأمن الدولي بجامعة شيكاغو. هذا الكتاب يعد أمرا غير مسبوق لرصد الكذب في السياسة الدولية وهو مليء بالمفاجآت, ويقول الكاتب إن الزعماء يكذبون علي بعضهم البعض وعلي شعوبهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في عواقب كذبهم وقد تكون النتيجة خسائر فادحة خاصة عندما يتعلق الأمر بالديمقراطية. المفاجأة التي يفجرها الكاتب هي أن الكذب بشأن السياسة الخارجية جزء لا يتجزأ من طريقة الحياة الديمقراطية, فيعد الكتاب رسالة مهمة للشعوب في الدول التي تدعي أتباع الديمقراطية حتي لا ينخدعوا من قبل قاداتهم. ويقول الكاتب: برغم أنه لا توجد أدبيات للكذب في السياسة الدولية ومناهج محددة لأتباعه, فإنه أمر موجود ومثير للدهشة حتي تحول الكذب داخل بعض الزعماء إلي نوع من أنواع البيزنس في السياسة الدولية. يقدم الكاتب أول تحليل منهجي للكذب كأداة من أدوات فن الحكم, مؤكدا أن هناك أنواعا أخري من الخداع تتمثل في الإخفاء والعزل, مشددا علي أن الكذب يخلق أجواء من عدم الثقة بين القوي العظمي. ويسرد الكاتب أمثلة صارخة للكذب في السياسة الأمريكية, حيث اتهم جون كيري المرشح الديمقراطي للرئاسة عام4002 جورج بوش الابن صراحة بالكذب بدلا من أن يقول إنه فشل في تقديم الحقيقة أوزيف وعي الأمريكيين بشأن العراق. ويقول الكاتب إن العراق مثال صارخ علي الكذب في السياسة الأمريكية حيث كذب بوش علي شعبه لشن الغزو علي بغداد بادعاء امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل حتي تحولت الحرب إلي كارثة استراتيجية لواشنطن,وبرغم ذلك لم يعاقب بوش علي فعلته, وعندما تتجه الحرب إلي الأسوأ وتعي الشعوب أن الخداع جعلها أمرا ممكنا يبدأ التفكير في أسباب كذب رئيسهم عليهم, وتطرح أسئلة لا تصل إلي حد العقاب. ويقول الكاتب إن هناك أشخاصا محددين في إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الذين قادوا غزو العراق3002 تحت زعم امتلاك بغداد لأسلحة الدمار الشامل وزعموا امتلاك أدلة دامغة علي ذلك, مما جعل حرب العراق ضرورة وليست أمرا خاضعا للاختيار, مما أقنع الأمريكيين بضرورة الغزو والإطاحة بصدام حسين. الرئيس العراقي الراحل أيضا كذب علي شعبه وعلي الدول الأخري بشأن امتلاكه أسلحة الدمار الشامل حتي يخيف واشنطن وإيران من مهاجمة بلاده ساعد في ذلك حالة عدم التأكد التي صاحبت تقارير الأممالمتحدة في هذا الشأن, بل إن حالة عدم اليقين انطبقت علي الحالتين عدم وجود أسلحة دمار شامل ووجود أسلحة دمار شامل! وهناك مثال آخر لكذب الزعيم الروسي خروشوف بشأن حجم القوة الصاروخية السوفيتية مما جعل الرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور يكذب هو الآخر بشأن طائرات التجسس من طراز يو 2 عام0691 وأسفر الكذب المتبادل والتراشق به إلي إلغاء القمة التي كانت مقررة بين الزعيمين! القادة يستطيعون خداع شعوبهم أكثر من زعماء الدول الأخري وفي بعض الأحيان تكون النتائج مدمرة علي الرغم من أن الأسباب المعلنة تكون نبيلة فقد كذب الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت علي الشعب الأمريكي بشأن مهاجمة القوارب الألمانية للمدمرة الأمريكية جرير عام0491 لتبرير الحرب ضد هتلر في ذلك الوقت. ويقول الكاتب الذي اتسم بجرأته في تحليل السياسة الخارجية الأمريكية إن الرؤساء الأمريكيين الأكثر كذبا بين الدول الكبري علي الشعب الأمريكي بشأن السياسة الخارجية, فإلي جانب كذب بوش وروزفلت كذب ليندون جونسون بشأن أحداث خليج تونكن عام4691 للحصول علي دعم الكونجرس الأمريكي لشن الحرب علي شمال فيتنام والتي تحولت إلي مستنقع أذاق الأمريكيين خسائر لم ينسوها حتي الآن. ويشدد الكاتب علي أن رؤساء أمريكا عندما يكذبون لا يشعرون بأنهم ارتكبوا أخطاء ولكنهم يدعون الكذب لمصلحة أمريكا بل يؤمنون بأن الكذب واجب أخلاقي برغم أن المنطق يقول إنه شيء غير أخلاقي! ويقول الكاتب: عادة لا تقوم الشعوب بمحاكمة الرؤساء علي كذبهم وكأنهم يتفقون علي أن الكذب جزء مكمل للعلاقات الدولية, كما أن ذلك يشير إلي تفهم الشعب الأمريكي لحق الزعماء في الكذب لحماية أمن أمريكا. أما في السياسة الداخلية الأمريكية فيتفق الجميع زعماء ومحكومين علي أن أي كذب مرفوض وخطأ, وكلنا نتذكر كذب الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بشأن علاقته بمونيكا لوينسكي المتدربة السابقة في البيت الأبيض وثورة الشعب الأمريكي في ذلك الوقت لأن الرئيس كذب برغم أن كذبة كلينتون كانت تتعلق بأمر شخصي لا يضر إلا شخصا واحدا فقط, بينما الكذب في الحروب يساوي حياة ملايين الأبرياء الذين لا يمرون في بال الشعب الأمريكي! المؤلف مير شامير صاحب الكتاب الأكثر طبعا عام2007 تحت عنوان اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية والذي أثار عاصفة من الاحتجاجات بسبب تحليله لتأثير اللوبي اليهودي علي السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط والذي ترجم لنحو19 لغة يقدم بهذا الكتاب نقدا لاذعا للإدارات الأمريكية المتلاحقة التي يقول إنها حققت رقما قياسيا في الكذب داخليا وخارجيا نظرا لقوة أمريكا وتداخلها في العديد من القضايا الدولية علي المستوي العالمي, وهو أمر مثير للقلق حيث تتحول الحقائق إلي أكاذيب والأكاذيب إلي حقائق, وهو أمر يلحق أضرارا بالغة للصورة الذهنية للولايات المتحدةالأمريكية. ويقول الكاتب إن تفكيري لتقديم كتاب حول ما يسمي بالكذب الدولي نابع من إثارتي له مع المتخصصين والخبراء في أماكن مختلفة مثل مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك ومعهد سالشمان لدراسات الحرب والسلام بجامعة كولومبيا والاجتماع السنوي لمؤسسة العلوم الأمريكية عام2004, ومناقشتي لسياسة الكذب مع طلاب جامعة مونتانيا ومركز السياسات الدولية بجامعة بنسلفانيا. وفي أحد فصول الكتاب يقول المؤلف إن الإخفاء هو جزء أيضا من الكذب وأبرز دليل عليه في السياسة الأمريكية هو قرار إدارة بوش الابن بعدم الإفصاح قبل غزو العراق عن اعترافات اثنين من زعماء القاعدة وهما خالد شيخ محمد وأبوزبيدة اللذان اعترفا بشكل مفصل للمحققين الأمريكيين بأن زعيم القاعدة أسامة بن لادن كان يفكر في التحالف مع صدام حسين ضد الولاياتالمتحدة لكنه قرر بعد ذلك عدم الإقدام علي هذه الخطوة. وإذا كانت هذه الحقيقة قد ظهرت علنا قبل غزو العراق كانت ستقوض ادعاءات بوش بوجود صلة بين صدام حسين وبن لادن, حيث كانت هذه الادعاءات أمرا ضروريا لكسب تأييد الرأي العام الأمريكي والكونجرس لإصدار قرار الحرب ضد صدام, ويقول الكاتب إن ما حدث هو نوع من أنواع الخداع والكذب! وللكاتب كتاب آخر صدر حاليا في أمريكا تحت عنوان تراجيديا سياسات القوي العظمي يقول فيه إن القوي العظمي تسعي لزيادة حصتها من القوة والسيطرة العالمية لأن بقاءها مهيمنة هو أفضل وسيلة لاستمرارها وينطلق في ذلك من الواقعية الهجومية وحذر من وضع النيات الحسنة في الدول الأخري, حيث تتسم القوي العظمي بعدم الصبر واتباع لعبة قصيرة تتسم بالوحشية والحروب المسبقة. وجه الكاتب انتقادات بالغة للولايات المتحدةالأمريكية واشتباكها السريع مع الدول الأخري والدخول في حروب لفرض هيمنتها في أماكن متفرقة من العالم. وبالبحث في السجل التاريخي منذ عهد نابليون وجد الكاتب أن الدول ذات الهيمنة الإقليمية تسعي لتأكيد قوتها من خلال القوة العسكرية. وقال إنه عندما تكون هناك أكثر من دولة في إقليم واحد وأحدهم لها قدرة السيطرة علي الآخرين, فإن احتمال الحرب يرتفع بشكل كبير, مما يؤكد أن مستقبل السياسة العالمية يحمل فرص كثيرة لوقوع صراع وحروب عالمية جديدة, وربما يفسر هذا الكتاب أسباب لجوء واشنطن للكذب لاستمرار فرض هيمنتها الإقليمية والدولية برغم ظهور لاعبين جدد علي الساحة العالمية.