بعيدا عن التعريفات الفلسفية الاكاديمية للأخلاق باعتبارها أحد المباحث الاساسية الكبري في الفلسفة »الحق - الخير - الجمال«.. واقترابا من المفهوم الوضعي الاصطلاحي الذي يركز علي المعني القيمي والاجتماعي لكلمة الاخلاق سنبادر بإدانة ذلك الفساد الخلقي - او الاخلاقي - الذي يسود مناخ العمل السياسي وبعض السلوكيات الاعلامية خلال هذه الفترة.. وتتجلي اهم مظاهره في حالة »الكذب العام« التي ينتجها الساسة والاعلاميون! السياسة وتجاوز الأخلاق تشيع علي ألسنة وأقلام مفكري ومحللي السياسية مقولة ان السياسة لا تأخذ بالمعايير الاخلاقية العامة ويتعللون في ذلك بأن السياسة هي فن المناورة والخداع التكتيكي الاستراتيجي وتأخذ في معظم الاحوال بمبدأ الغائية الميكيافيللية التي تبيح الكذب و الارزدواجية واتباع كافة اساليب الخداع والغش في سبيل تحقيق المصلحة، ونحن نقول ان هذا جائز فقط في مواقف المناورات وجس النبض وربما في المحادثات الرسمية او السرية بين دولة واخري وهو المجال الذي نغتفر فيه مخالفة كل قيم الاخلاق العامة مثل الكذب والخداع مبررين ذلك بالمهارة والقدرة علي ايهام العدو او صاحب المصلحة التي تتعارض مع مصالح امتنا مما يضفي علي الكذب هنا نوعا من الاباحة والشرعية، يختلف الامر تماما في السياسة الداخلية وفي العلاقة بين الشعب وحكامه وكلما توخي الرؤساء والوزراء وكل المشتغلين بالسياسة الصدق والشفافية والتعامل الصريح والصادق مع شعبهم، صح بنيان السياسة الوطنية واستقام وكان جديرا بثقة الأمة التي اختارته واتخذته سبيلا فليس هناك طبقا للعقد السياسي المبرم بين الحاكم والمحكوم في بلد ما مجال ليناور فيه الحاكم علي شعبه وليس هناك ما يبرر اخفاء الحقائق بحجة سرية السياسة العليا مثلا ولا يوجد اي مسوغ اخلاقي لان يكذب الساسة علي مواطنيهم او أن يدلسوا علي الرأي العام في وطنهم. وفي البلاد التي تقدمت علي درب الحضارة واعتنقت نظما سياسية شفافة يعد كذب المسئول او رجل السياسة أياً كان موقعه كبيرة الكبائر وجرما لا يمكن التسامح فيه او العفو عنه ولدينا مثلان من امريكا هما حالة ريتشارد نيكسون وحالة بيل كلينتون، في الاولي كذب نيكسون علي الشعب الامريكي حين أنكر علمه بعملية التآمر للتجسس علي مقر الحزب الديمقراطي في بناية ووترجيت وحين كشفت الواشنطن بوست تفاصيل المؤامرة وعرف الامريكيون ان رئيسهم قد كذب تحدد مصير نيكسون التعس وثارت عليه الأمة كلها ودفعته قصراً الي الاستقالة والخروج من البيت الابيض تظلله سحابة الازدراء والاحتقار وتلقي به في مزبلة التاريخ، أما بيل كلينتون فقد تقدم الي شعبه في صراحة غير مسبوقة ليصدقه القول ويعترف بأنه ارتكب خطأ يندم عليه ويطلب العفو من جموع الامريكيين »حكاية مونيكا لوينكسي وتوابعها« غفر الامريكيون لرئيسهم شططه وتورطه في علاقات نسائية ترقي الي درجة الخيانة الزوجية لسبب واحد فقط انه كان صادقا ولم يكذب، نفس الحالة تكررت في دول اخري كثيرة من دول العالم المتحضر، فما هو الوضع في مصرنا المحروسة؟ عصر الكذب والكذابين ودعنا من الكذب الملون الذي أبدعته قرائح جيوش الوزراء الذين توالوا علي أمور مصر ومصالحها طوال عدة عقود من الزمن التعس.. كم سمع المصريون من وعود وكم رسمت لاعينهم احلام المستقبل الوردي الذي تنزل لهم فيه موائد المن والسلوي وتحل عبر كل مشاكلهم لتحقق - لو صدقت ربع هذه الوعود - جنتهم علي أرض النيل ودعنا من الأيمان التي اقسموها حين تولوا مناصبهم هم ورؤساؤهم بان يحافظوا علي استقلال الوطن وسلامة اراضيه وحماية مصالحه وخيبة الأمل التي تمد اطرافها في نفوس الملايين عندما يرون كل الاماني مجرد التماعات للسراب لا تطفئ ظمأً ولا تبلغ غاية فالحديث في كل هذا معاد ومكرر ولا طائل من الامعان فيه ولننظر الي المشهد السياسي وافتتاحية الموسم متمثلة في انتخابات مجلس الشعب التي ستجري هذا الشهر لنر ان شادر الكذب قد تم نصبه لتقدم عليه الفقرات واحدة بعد اخري وقد عرضت الفقرة الاولي بالفعل متمثلة في كوميديا الحزب الوطني والمنشقين المستقلين او المستقلين المنشقين او »المنشقلين« وهي وان كانت فقرة كوميدية الا انها لا تضحك بل تبعث علي الاسف الحقيقي بما تحمله من دلالات الهزل في موقف الجسد وهل هناك ما هو اكثر جدية من انتخابات تأتي بممثلي الامة الي ساحة البرلمان ليشرعوا ويراقبوا ويحاسبوا؟ ولكن لان المسألة لا تتعلق بحزب حقيقي ومنشقين حقيقيين وانتخابات حقيقية وانما تتعلق اساسا بمزاد مفتوح ومولد منصوب للحصول علي المغانم وتحقيق المصالح والقفز علي مخازن الحصانة والمصالح الخاصة وتسهيلات المغانم »يغمه الفتة« المتاحة بعرض مصر وطولها فان تمثيلية الحزب والمنشقين تبدو حتي الان عرضا »مهروشاً« سبق للنظارة في مصر ان شاهدوه وحفظوه في انتخابات المجلس السابقة فكل اعضاء الحزب يريدون ان يترشحوا لكن الحزب لا يرشح الا من ضمن ولاءهم أكثر وكانت له معهم تجارب وشراكات ومصالح سابقة ثم انه يريد الدفع بوجوه جديدة يوهم الناخبين عن طريقها انه يجدد الدماء في شرايينه ويدفع بالحيوية في أوصاله.. في حين ان ما زعمه رجال الحزب وقياداته الدائمة »الخالدة« ليس الا غطاء للصراع الناشب في كواليسه بين ما سموا بالحرس القديم وبين جيل »المستقبل« من جناح السياسات.. وهكذا اندفع اعضاء الحزب من غير المبشرين بالترشيح وغير الحائزين علي نعمة الرضا في ذلك الكيان الهلامي المسمي بالمجمع الانتخابي.. اندفعوا ليرشحوا انفسهم كمستقلين.. اي انهم سيواجهون جماهير الناخبين بصفتهم غير منتمين لأي حزب.. واذا نجح منهم احد فسينجح بصفته مستقلا غير مرتبط بمبادئ حزب معين، وربما لهذا السبب وحده يحصل علي ثقة الناخبين.. وفي هذه الحالة نقضي الاعراف التي تلتزم بها الاحزاب في كل انحاء العالم بأن العضو الذي يخرج عن الالتزام الحزبي ويرشح نفسه خارج قوائم واختيارات الحزب يتم فصله من الحزب نهائيا.. لكن الحزب العجيب، حزب الطرائف والنوادر في مصر لم يفعل شيئاً من هذا لانه في واقع الامر يمارس كذبة ضخمة مفضوحة علي الجماهير التي يتقدم اليها طالبا ان تمنحه الثقة.. وآليات هذه الكذبة معروفة.. فبمجرد انتهاء الانتخابات يسرع بضم كل من نجحوا من المستقلين »المنشقين عنه« الي هيئته البرلمانية وهكذا تتورم اغلبيته وتتضخم وتلتهم تسعين بالمائة من مقاعد المجلس الموقر! وهكذا تفتتح الدورة البرلمانية الجديدة بكذبة ويحمل الكذابون مسئولية تمثيل الشعب والدفاع عن مصالحه.. بل ويتصدرون المجلس المنوط به التشريع لمصر ومراقبة سلطة التنفيذ فيها لمدة أربع سنوات قادمة، والمفارقة المضحكة والمبكية معا ان هؤلاء الكذابين المخادعين هم من كنا نأمل ان يكونوا مجلسا قويا يمكن من خلاله دفع البرامج الاصلاحية وتنفيذ كل التعهدات المطلوبة للتغيير الديمقراطي.. انني لا اعرف اشخاص السادة المنشقين الذين اعلنوا ترشيح انفسهم مستقلين.. ولكني اقول لهم: حتي لو لم يفصلكم الحزب باعتباركم منشقين عنه فمجرد ان تقدموا انفسكم للناخبين بصفتكم مستقلين فان هذا يلزمكم اخلاقيا اذا فزتم بثقتهم ان تستقيلوا فعلا ونهائيا من الحزب وان تبقوا علي صفتكم الانتخابية التي حصلتم علي الاصوات تأسيسا عليها..وهذا الالتزام الاخلاقي هو معيار الجدارة واستحقاق شرف تمثيل الأمة.. ولا يمكن التملص منه بحجة ان لاخلاق لا مكان لها في السياسة.. لان المعيار هنا يتصل بالضمير الوطني الجمعي وبالضمير الفردي معا. كذابون من صنف آخر تراهم وهم يحاولون طمس الحقائق الواضحة وضوح الشمس ويسعون الي قلبها وعكس رؤية الجميع لها.. ففي سبيل الحصول علي ميزة رخيصة او اخفاء عورة ما يلجأون بدلا من الاعتراف بالواقع السلبي والاعتذار عنه الي تزوير وعي المتلقين ومحاولة غسل ادمغتهم ودفعهم الي حب ما كرهوه وقبول ما رفضوه! وعبر شاشات التليفزيون نري اعجوبة فريدة من نوعها.. وان كانت لها سوابق في سنوات ماضية إذ تلجأ قناة أرضية رئيسية الي اقامة الافراح والليالي الملاح احتفالا بنجاح مسلسل من اسوأ ما انتج من دارما في تاريخ التليفزيون.. بل لا يصح ان يوصف بأنه دراما علي الاطلاق ولا يمكن ايضا الحاقه بأي صنف يميت للفن بصلة.. ويأتي السادة المحتفلون بالسادةو السيدات المحتفي بهم ليتباروا في الحديث عن النجاح المدوي الذي لقيه المسلسل بإصرار و»بجاحة« منقطمي النظير.. »ليبحلق« المواطنون مشاهد البرنامج لبعضهم البعض وهم يتساءلون في دهشة بينما يضربون كفاً بكف: هل نجح المسلسل وهم مش واخدين بالهم؟ ام انهم جميعا اغبياء لم يدركوا اوجه الجمال والعظمة في العمل الذي اصابهم بالاحباط والكآبة وأتعسهم طوال الشهر! يجمع الناس علي أمر ويقودهم اعلام منافق إلي عكسه.. فأي نوع من الاسكيزوفرانيا قد اصابنا؟ ثم تعالوا الي باقي الحفلات والندوات واللقاءات التي ينظهما الطبالون والزمارون وكذابوا الزفة ومرتزقة »الهوا« وتلك الاستفتاءات سابقة التجهيز التي تروج لأعمال »فاسدة« ومضروبة وتريد ان توصل رسالة محددة الي الجماهير في كل مكان تقول لهم: عدم المؤاخذة انتوا مش فاهمين بدليل ان الاغلبية بتقول عكس مانتوا فاكرين! ويمضي موسم الكذب لأخره ممتلئاً بمواكب العيارين والشطار وفناني الثلاث ورقات واللاعبين بالبيضة والحجر.. وتعج شوادر الدراويما بتهوشات الإفك والتدليس.. ويبقي الملايين من ابناء هذا الوطن نهبا للحيرة والارتباك والعجز عن الفرز والاختيار.. فقد فقدوا البوصلة التي تقودهم في متاهة ليلهم السابغ الذي لا تلوح فيه بشارة فجر قريب. اعتذار.. وملحة أعرف انه عيد.. وان الناس »مش ناقصة« تقليب مواجع.. لذا فانا أعتذر وأرجو من السادة القراء ان يفوتوا لي فارغة ويتجاوزوا عن طبعي »النكدي« واريد ان اختم مقالي اليوم بملحة قد تفلح في تخفيف ما وقر في النفس من ثقل الهموم. والحقيقة انني اعرف كما تعرفون جميعا »المسقعة« وهي من ألذ ما يطبخه المصريون من اصناف الباذنجان ولكنني اجهل كما يجهل معظمكم ان هناك »مصقعة« اخري يشتق منها اسم الفاعل »مصقع« وهو اكتشاف لغوي جديد يرجع الفضل فيه الي السيدة نيرفانا إدريس.. مقدمة البرامج في »البيت بيتك« حاليا و»القاهرة اليوم« سابقا.. والله اعلم فين مستقبلا.. فقد فاجأتنا السيدة المفضال والمذيعة المصقعة بهذه المفردة اللغوية الفريدة التي اعرف انها صحيحة وانها مشتقة من الاصقاع اي الاماكن والجهات والبلدان البعيدة وتعني غالبا ان من يوصف بها هو ذو ثقافة موسوعية شاملة. عبر كل البلاد و»الأصقاع« المفاجأة كانت في ان السيدة نيرفانا تعرفها وتفهم معناها.. أولاً لأنها مفردة غير شائعة وليس مطلوبا ولا طبيعيا ان تعرفها مذيعة ظريفة وبنت حلال.. وعلي قدها.. وثانيا لان الاخت نيرفانا هي من مدرسة »الانجلوفون« وتجيد تحصيل مفردات انجليزية كثيرة تطل علينا بها دائما، اما حكاية »المصقعة« هذه فكانت مفاجأة بحق. ولكنها عموماً مفاجأة لطيفة، نتمني علي الاخت المصقعة ان تتحفنا بأمثالها بين الحين والحين ولها منا الشكر.. والاجر والثواب علي الله. ------------------------------------------------------------------- الوفد