إن القصة في الواقع ذات أهمية كبيرة ومغزى ذي شأن في ما يتعلق بالعالم النامي، وهي على القدر ذاته من الأهمية أو أكثر في ما يتعلق بالعمال في صناعات معينة في البلدان المتطورة. فإليكم هنا خلفية القصة: لسنوات عديدة، حظي منتجو النسيج في أوروبا والولاياتالمتحدة والاقتصادات الغنية بالحماية التي يقدمها نظام الحصص العالمي الذي يدرأ عنهم مشكلة التنافس الكامل مع قطاع صناعة الألبسة والأقمشة والمناشف والأغطية والبطانيات وعموم البضائع الأخرى الأرخص التي تنتجها البلدان النامية. وقد حافظ هذا الاتفاق على الوظائف في بلدان الشمال، لكنّه ولّد الإحباط في بلدان الجنوب التي كان الصانعون فيها مرغمين في السنوات القليلة الماضية على رفض تلبية الكثير من الطلبيات الخارجية بسبب استنفادهم لحصص الصادرات السنوية المخصصة لهم. \r\n \r\n لكن نظام الحصص العالمي سيبلغ نهايته في غضون 9 أشهر من الآن. ففي الهند، وبحسب ما أفادت به مجلة فاينانشال تايمز، ينشط الصانعون ويقومون بإضافة مقدرات إنتاجية جديدة. ومن المؤكد أن تحدث فورة نشاط في الصادرات النسيجية الهندية في الأشهر المقبلة على رغم أن المستهلكين في بلدان الشمال قد لا يعلمون بهذا لأن تلك المنتجات ستحمل أسماء تجارية لامعة مثل ماركس آند سبنسر، وول مارت وغاب. لكن من المؤكد أن عمال الصناعات النسيجية في بلدان الشمال سيشعرون بتأثير ذلك، حيث سيتم رفع غطاء الحماية عنهم ليستسلموا أمام منافسة البضائع الأرخص بكثير لكن التي تتمتع بالجودة نفسها. \r\n \r\n ومن غير الممكن أن تكون المفارقة التاريخية في ذلك أعظم ممّا ستكون، ولا سيّما في ما يتعلق بحالة الهند. \r\n \r\n كأن العالم دار دورة كاملة. ففي القرن 18، كان قطاع صناعة النسيج في الهند متفوقاً على كل القطاعات الأخرى وأكبر منها حجماً. ولم يكن هناك نظير لأقمشة ومنسوجات كلكوتا الشهيرة الكتانية والحريرية والقطنية. وفي الحقيقة أن بعض الدول الأوروبية فرضت تعريفات جمركية بغرض منع دخول الواردات من تلك الأقمشة إلى أراضيها. \r\n \r\n وقد حدث تغيّر دراماتيكي مفاجئ في التوازن بفعل انطلاق الثورة الصناعية في بريطانيا عموماً، وخصوصا بفعل تجمع المئات من آلات صناعة النسيج البخارية تحت سقف مصنع واحد. وكانت آلات الغزل تعمل لمدة 24 ساعة متواصلة دون أن يصيبها أي تعب، وكانت قادرة على إنتاج القماش على نحو أكثر انتظاماً ورخصاً مما ينتجه النسّاجون الهنود الذين يستخدمون الأنوال اليدوية. ( لم يكن مدهشاً ولا مفاجئاً أنه عندما بدأ موهنداس غاندي حملته لتحرير الهند من الحكم البريطاني، اتخذت الحركة من صورة المغزل التقليدي شعاراً لها). وفي أواخر القرن التاسع عشر، كان هناك ما يقدر ب 45% من القطنيات المنتجة في مقاطعة لانكشاير البريطانية يذهب إلى الهند وحدها. ومع حدوث فورة نشاط في القطاعات الصناعية البريطانية، حدث ذبول وضعف في نظيراتها الهندية التي أصيبت بالركود. \r\n \r\n وعلى رغم ذلك، حدث تحوّل في العالم في مطلع القرن 21. ومرة أخرى تبدو المفارقة التاريخية ملفتة للنظر. فعلى رغم كل شيء، دأبت دول الشمال في العقود القليلة الماضية على تصدير آلات صنع النسيج وغيره إلى دول الجنوب، وقامت بتجنيد طلاب الإدارة من آسيا وأميركا اللاتينية وإدخالهم في كليات ومدارس إدارة الأعمال في الولاياتالمتحدة الأميركية، وعرضت تقديم الرأسمال والمشاريع المشتركة إلى التطورات الجديدة الحاصلة في أرجاء الكرة الأرضية، كما قامت بالضغط على الحكومات لإرغامها على قبول سياسات السوق المفتوحة. وقد تميّزت الولاياتالمتحدة دون غيرها في التشديد على أهمية استحداث ملعب مفتوح، تماماً على غرار ما فعله البريطانيون في مطلع القرن ال 19. \r\n \r\n لكن \"ماذا تعني السوق المفتوحة\"، على حد قول رجال الأعمال والقوميين الهنود آنذاك، عندما تكون لدى بلد ما آلات نسيج تعمل بالبخار ولا يمتلكها البلد الآخر؟ وما معنى \"مفتوحة\"، على حد قول العمال الأميركيين والأوروبيين اليوم، عندما تكون أجور العمال في الهند لا تعادل ربما أكثر من 1/8 من أجور العمال في دول الشمال؟ ولماذا ينبغي أن يكون لهذه الشكاوى معنى عندما يكون الغرض الكلي من سنّ قوانين منظمة التجارة العالمية هو إزالة الحماية؟ دعوا القوي يلتهم الضعيف. فالبلدان التي تسقط متهاوية من قمة السلم ستأتي إلى مكانها تلك الدول الصاعدة، فلا ينبغي لمن يسقط أن يشكو ويتذمر، لأن دور تلك الدول قد حان. \r\n \r\n ولذلك سيتزايد تدفق السلع النسيجية الهندية إلى الشمال. ومن المفارقات أن الصين ستكون المنافس الرئيسي للهند في تلك الأسواق، حيث إن أحجام الصادرات الصينية أكبر من نظيرتها الهندية الآن وستكون أكبر منها أيضاً في المستقبل. وستشتمل تلك التدفقات الهندية منتجات كثيرة، من الألعاب والدمى إلى أدوات المطبخ والأثاث وصولاً إلى السلع والخدمات المالية. فكيف لا يتحقق لها ذلك بوجود التفاوت الكبير في تكاليف الإنتاج وبوجود التعادل في تكنولوجيا الإنتاج والخدمات؟ \r\n \r\n وباعتبار أن النمو في الاقتصادين الهندي والصيني يتراوح ما بين 8 و10% سنوياً، تبدو حصتهما من الناتج العالمي والثروة العالمية وبالتالي من القوة العالمية، حصة مؤكدة ومضمونة. ومن المؤكد أيضاً أنه ستحدث اضطرابات كثيرة في هذا النمو، على غرار ما حدث في التوسع الاقتصادي الأميركي المثير في القرن 19. لكن هذه الحركة نحو الصعود لايمكن وقفها إلا بفعل حماقة حرب نووية أو أزمة بيئية كارثية. \r\n \r\n إن ذلك يضع المجتمعات الشمالية وزعماء وعمال الشمال في مأزق عويص. فمن الممكن أن يخرقوا قوانين منظمة التجارة العالمية وأن يفرضوا تعرفات جمركية حمائية، وأن يسترضوا القوى العاملة الخائفة، لكن معنى ذلك أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً مباشراً (مواجهة فرض تعريفات مضادة على سلع أوروبية وأميركية معينة) وغير مباشر حيث سيتعرضون لخطر حقيقي من نشوب حرب حمائية ربما تعيد إلى الأذهان ما حدث في الثلاثينيات من تقهقر إلى الاكتفاء الذاتي الاقتصادي ومن صعود السياسيين القوميين المتطرفين الذين يفيدون من مخاوف شعوبهم. \r\n \r\n أو من الممكن أن يبقى الشمال ملتزماً بنظام الملعب المفتوح، وأن يرى صناعاته المحلية وهي تُكنس عن طرف الطاولة، وهو ما سيذكي بدوره نار الاستياء الداخلي. وعلى رغم أن كل يوم يشهد كتابة الكثير من الكلام حول هذه المعضلة، فإنني لا أرى اقتصادياً واحداً توصّل إلى حل لها. \r\n \r\n فماذا يعني ذلك كله، في سياق فهمنا الأوسع للاتجاهات العالمية؟ في أواخر القرن الثامن عشر، تزلزل الرأي العام في الشمال بفعل ثورة المستعمرين الأميركيين، وتزلزل أكثر من ذلك بسبب الثورة الفرنسية ونابليون. ولم يلاحظ الكثير من المراقبين أن العالم كان يتحول على نحو آخر بفعل المحرك البخاري والمصنع الحديث. ولم يتطرق إلى الإشارة إلى ذلك التداخل الكرونولوجي سوى بعض المؤرخين اللاحقين. وعلى غرار ذلك، سيقوم الباحثون والدارسون بعد بضعة عقود من الآن بالتعليق على التزامن المثير للاهتمام ما بين قيام زعمائنا وجماهيرنا ووسائل إعلامنا المهووسين جميعاً بالاهتمام بالعراق والإرهابيين وأشباههم، وتحوّل الموازين في العالم المنتج بسرعة خاطفة وانتقالها من العالم\" الأول\" إلى العالم \"الثالث\". وسيقال إننا كنا ندور دورة كاملة ونكاد لا نلاحظ ذلك. \r\n \r\n يُنشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز\" \r\n