عندما بدأ اهتمامي على الصعيد الشخصي بالكتابة، أدهشني أن العرب لم يهتموا بتلك النوعية من الكتابة التي عرفت باسم القص، وأعتقد أن هذا كان راجعا إلى حد كبير إلى الحقيقة القائلة إنهم ربما شعروا بأن هناك شيئا أقرب إلى الغش في اختلاق قصة ذات شخصيات مستمدة أيضا من وحي الخيال.. فما هي قيمة مثل هذه القصة حسب شعورهم؟ أن رجلا لم يسبق له قط أن حمل بندقية طوال حياته، يجلس في أمان في مكتبه ويحاول تصور وصياغة تجربة رجل يسمع أصوات طلقات الرصاص من حوله، ويعلق الآمال على أنه ما من رصاصة منها سوف تصيبه. ولكن يبدو أن الكثير من الأفراد، وبصفة خاصة أولئك الذين ذهبوا إلى منطقة ما في أوروبا لإتمام دراساتهم العليا، قد سمحوا لفضولهم بأن يمضي بهم إلى قراءة رواية ما اكتسبت الشهرة في أدب البلد الذي يدرسون فيه، وربما أفلحت هذه القصة، رغم كونها خيالا، في اجتذاب اهتمامهم. وعند منعطف ما، فإن هذا القارئ العربي الذي اجتذبته بما فيه الكفاية رواية بالفرنسية أو الإيطالية أو الانجليزية، وجد نفسه يقول: اللغة العربية ليس فيها مثل هذه الرواية، فلماذا لا أجرب تأليف مثل هذا الكتاب؟ وهكذا في مصر نجد أن كتابا من أمثال محمود تيمور ويحيى حقي وتوفيق الحكيم، هم جميعا ممن استفادوا من إنجاز دراساتهم العليا خارج مصر، وعلى سبيل المثال في فرنسا، قد أبدعوا مثل هذه الأعمال المنتمية إلى عالم القص، والتي كانت تعرف بالقصص القصيرة والروايات. ولا شك في أنهم قد دهشوا عندما اجتذبت كتاباتهم هذه اهتمام بعض القراء العرب، وكذلك أن بعض الكتاب الأجانب الذين تصادف أنه كانت لديهم معرفة باللغة العربية تمكنهم من قراءتها، قد بادروا بترجمتها إلى لغاتهم الأصلية. وهكذا أصبحت اللغات الأجنبية فجأة أحد الموضوعات التي تتم دراستها في العديد من المدارس في العالم العربي، وأيضا في تلك الجامعات التي تمكنت من العثور على المدرسين المناسبين، والذين كان يفضل أن يكونوا من أبناء تلك اللغات التي يجري تدريسها، أو إذا لم يوجد مثل هؤلاء الأشخاص تتم الاستعانة بمدرسين من العرب يعرفون تلك اللغات الأجنبية معرفة وثيقة. وكان من المحتم أن يجيء وقت يدرك فيه قراء جادون على امتداد العالم العربي، أن بعض الآداب الأجنبية تحتوي على نماذج من القص الذي يثير اهتمام القراء العرب، إذا تمت ترجمتها إلى اللغة العربية. وأيضا أن الكثير من الآداب الأجنبية عندما يتعلق الأمر مثلا بالشعر، وهو شكل أدبي كان يتم إبداعه في معظم اللغات، قدمت شعراء تحتوي أعمالهم على عناصر تعكس عبقريتهم الإبداعية، وتحتفظ بفرادتها حتى عندما تتم ترجمتها بتمكن إلى لغة أخرى. وهكذا فإن كتابا عظاما مثل شكسبير، مارلو، ووردز ورث، وعقب ذلك دي إتش لورنس وجيمس جويس، قد ترجمت أعمالهم بمزيد من الشغف إلى لغانت أخرى، بينما نجد أن كتابا بارزين من أمثال جيت وتولستوي وسيرفانتس، كانت أعمالهم تقرأ بمزيد من الحماس في ترجمات لأعمالهم. من خلال الأدب والترجمات من الآداب الأجنبية المختلفة، أصبح العالم يعرف ظواهر مهمة مثل البوذية وغيرها من الحركات الروحية في أجزاء من العالم لم تكن من المناطق المعتادة التي يزورها الأجانب، ومثل هذه الثقافات النادرة نشرت في الخارج عبر ترجمات آدابها التي أبدعها فرد أو فردان أتيحت لهما الفرصة والقدرة على معرفة هذه اللغات والثقافة. والنتيجة هي انه بمرور السنين، ومن خلال شجاعة وعبقرية أفراد تمتعوا بمواهب خاصة، ومن خلال أولئك الذين منحتهم الصدفة الفرصة للارتحال إلى أماكن مجهولة، اكتشف العالم أسرارا كانت مجهولة، أتيحت للأشخاص المهتمين بمثل هذه الموضوعات، والمؤهلين لاستخدامها لصالح الجمهور. معرفة اللغات والقدرة على عبور حدود البلدان لغويا، جعلت من الممكن لسكان العالم بأسره الاستفادة فكريا من منجزات الثقافات التي كانت في السابق بعيدة عن متناول الناس ذهنيا وبدنيا. وهناك شيء آخر مميز أصبح ممكنا الآن، وهو قيام باحثي اليوم بالعودة إلى رحاب التاريخ، واكتشاف الحقائق التي كانت موجودة في إطاره دون اكتشافها من قبل، بسبب عجز الناس فنيا أو ذهنيا في ذلك الوقت عن تفهمها بالشكل المناسب، وإدراك أهمية ما يتم كشف النقاب عنه للبشرية جمعاء. هكذا يمكننا القول دونما تردد، أنه ما من شيء يتحرك في عالمنا بغير الترجمة. نوع المقال: عام