في الهند، عادة ما يكون تقديم أول ميزانية بعد الانتخابات من قبل الحكومة الجديدة لحظة لتقديم الهدايا والمكافآت، هدايا مجانية وتخفيضات ضريبية لأنصار الحزب الحاكم. وقد يبدو ذلك بالنسبة للبعض ممارسة سياسية جيدة وعادة حسنة؛ غير أنه إذا كان رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي» يرغب في تحقيق التوقعات العالية التي وضعتها له الأسواق، فعليه أن يسلك مسلكاً مختلفاً عندما يقدم ميزانيته في العاشر من الشهر الجاري. والواقع أن الأوضاع المالية الصعبة للهند تتطلب ميزانيتين قاسيتين متتاليتين. فبنسبة 7 إلى 9 بالمئة، ظل العجز المالي لكل من الحكومة المركزية وحكومات الولايات مرتفعاً بشكل مستمر لسنوات، وهو أمر يمكن تحميل مسؤوليته للحكومة السابقة التي قادها «حزب المؤتمر»، والتي أنتجت ميزانيتين «غير متقشفتين» بعد أن تم انتخابها لولاية ثانية في 2009. هذا علماً بأن الائتلاف الحاكم كان قد قرر تخفيضات ضريبية في 2008 في إطار الجهود الرامية لمحاربة الأزمة المالية، وقرر عدم التعجل في سحبها. كما زاد من الدعم بالنسبة للنفط والأسمدة والمواد الغذائية؛ وأعلن عن زيادات كبيرة في أسعار الدعم الحكومي بالنسبة للمحاصيل، وهو ما ساعد المزارعين بالفعل، لكنه زاد من تضخم أسعار الطعام. في البداية، أدت جولة الإنفاق هذه إلى تحفيز الاقتصاد؛ حيث نما الناتج المحلي الخام بنسبة 8٫6 بالمئة خلال السنة المالية 2009-2010 ثم بنسبة 8٫9 بالمئة في السنة المالية 2010- 2011. لكن تباطؤاً أعقب ذلك على نحو حتمي نتيجة تباطؤ الاقتصاد العالمي. وفي هذه الأثناء، ساعد ارتفاع العجز المالي على مفاقمة تضخم الأسعار بنسبة 8 إلى 10 بالمئة لعدة سنوات. كما رفع البنك المركزي معدلات الفائدة، لكن ذلك أثر على الإنتاج بدون أن يكبح الأسعار. وهددت وكالات التصنيف الائتماني بخفض تصنيف دين البلاد، فردّت الحكومة على ذلك بتخفيضات كبيرة في الإنفاق الرأسمالي. وبالتوازي مع ذلك، أصاب التهديد المتمثل في التحقيق في الفساد عملية صنع القرار بالشلل، فتجمدت الموافقة على المشاريع. وكانت النتيجة: تقلص الناتج المحلي الخام بالنصف تقريباً، حيث انتقل إلى 4٫6 في المئة و4٫7 في المئة على التوالي، في العامين الأخيرين اللذين قضاهما حزب المؤتمر في السلطة قبل الفوز الكبير لمودي. وعليه، فإن الدرس بالنسبة لمودي واضح لا لبس فيه: إذا بدأت بميزانيات غير متقشفة، فإنك لن تفوز سوى بشعبية مؤقتة، وبعد ذلك سيتعين عليك أن تدفع الثمن في النصف الثاني من ولايتك، أي تحديداً في الوقت الذي ستكون فيه بحاجة إلى النمو لضمان إعادة انتخابك. مودي يعيش الآن شهر عسل مع الناخبين والأنصار السياسيين؛ لكن قطع شهر العسل هذا قد يكون أفضل ترياق ضد الطلاق في المستقبل. وهذا يعني تخييب آمال كل أنواع الناخبين الذين صوتوا له وساهموا في فوزه. وعلى سبيل المثال، فإن أحد الأحزاب الحليفة لمودي في ولاية سيماندرا الجنوبية وعد خلال الحملة الانتخابية بشطب ديون المزارعين الذين مُنحوا قروضاً بنكية. فالحزب المحلي يريد من مودي أن يساعده على دفع ثمن تعهده اللامعقول. لكن على رئيس الوزراء أن يرفض، لأن ميزانيته تتعرض لضغط كبير. وعلاوة على ذلك، فإن مثل هذه المحاباة الواضحة والمفضوحة لولاية معينة ستنسف كل ادعاءاته حول الحكامة الجيدة. ذلك أن شطب الديون يكافئ من تخلفوا عن تسديد ديونهم ويجعل من يكافحون من أجل تسديدها يبدون مغفلين، وهو ما سيشجع الكثيرين على التخلف عن تسديد ديونهم بشكل متعمد في المستقبل، مما سيضعف النظام المالي في الأرياف بكاملها. الدعم الأساسي لحزب مودي يأتي من الطبقة الوسطى الهندية. ووسائل الإعلام الهندية تحفل هذه الأيام بالتكهنات التي تفيد بأن وزير المالية أرون جيتلي سيكافئ هؤلاء الناخبين عبر رفع سقف الضريبة على الدخل إلى 500 ألف روبية سنوياً من 200 ألف روبية. لكن هذا سيمثل انتحاراً مالياً. وبدلاً من ذلك، يتعين على الحكومة الجديدة أن تركز على سد الثغرات، والعمل على تقليص سلسلة واسعة من الإعفاءات والاستثناءات الضريبية الحالية، وتحسين الإدارة الضريبية. لقد وعد برنامج مودي الانتخابي بإنفاق جديد كبير على البنية التحتية والصحية. فمن أين سيحصل على كل الأموال المطلوبة لذلك؟ شركات البنية التحتية الخاصة لا يمكنها أن تكون هي الحل؛ ذلك أن معظمها غارق في الديون. بل إن المد الجارف للديون المتعثرة بات يهدد قابلية البنوك نفسها للحياة والنمو؛ ذلك أن البنوك المملوكة للدولة، والتي تشكل 70 في المئة من كل القطاع البنكي في البلاد، تحتاج إلى قرابة 6 تريليونات روبية من الرأسمال الجديد قبل 2018 لاستيفاء شروط ومعايير جولة مفاوضات بازل القادمة. لكن نيودلهي تفتقر إلى السيولة من أجل إعادة التمويل. وخلاصة القول إن الوضع يدعو إلى قرارات حاسمة وانضباط صارم في الميزانية، على أن ترافق ذلك سياسات جيدة وتقليص للإجراءات البيروقراطية الطويلة والمعقدة، من أجل إعادة إحياء النمو الاقتصادي. وحينها فقط ينبغي على مودي أن ينكب على جولة الإنفاق التي وعد بها على البنية التحتية. ومما لا شك فيه أن هذه المقاربة ستخيب آمال أنصاره على المدى القريب، ولكنها ستعود عليه بالفائدة عندما سيتعين على مودي أن يواجه الناخبين من جديد. نوع المقال: مقالات أقتصادية