شهدت الفترة ما بين الكساد العظيم وسقوط جدار برلين، التعديل الأكثر عمقاً في الدخل الفردي على النطاق العالمي منذ الثورة الصناعية. ويعزى هذا الوضع من جهة إلى معدلات النمو العالية في البلدان المكتظة بالسكان والفقيرة أو الفقيرة جداً، مثل الصين وإندونيسيا والهند، وإلى حالة الركود أو انخفاض الدخل في دول أميركا اللاتينية والبلدان الشيوعية سابقاً، ولدى القطاعات الأكثر فقراً من السكان في البلدان الغنية من جهة أخرى. وهذه النتائج هي حصيلة عمل مفصل على بيانات مسح للأسر في حوالي 120 بلداً، على مدى فترة تمتد من 1988 إلى 2008. ولتحليل هذه البيانات، تم تقسيم توزيع الدخل في كل بلد إلى عشرة أعشار، بناء على نصيب الفرد من الدخل المتاح (أي الاستهلاك). وفي سبيل جعل المداخيل قابلة للمقارنة بالكامل بين البلدان والمراحل الزمنية، تم تصحيحها لناحية التضخم المحلي والاختلافات في مستويات الأسعار بين البلدان. وعلى هذا الأساس، أصبح ممكنا رصد ليس فقط كيف يتغير وضع مختلف البلدان مع الوقت، وهو ما نقوم به في العادة، وإنما أيضاً كيف يتغير الوضع على مستوى تلك الأعشار المختلفة داخل كل بلد. على سبيل المثال، لا يزال أعلى عشر لناحية نصيب الفرد من الدخل المتاح في اليابان، عند ترتيب 99 ضمن الشريحة المئوية في العالم (في المرتبة الثانية)، لكن المتوسط العشري لليابان انخفض من ترتيب 91 إلى 88. أو لنأخذ مثالاً آخر، الأشخاص الذين ينتمون إلى العشر الأعلى من سكان المدن الصينيين، انتقلوا من كونهم في الموقع 68 ضمن الشريحة المئوية عام 1988 إلى الموقع 83 في 2008، مع تحسن أوضاع حوالي 15% من سكان العالم (ما يصل إلى مليار نسمة). و"الشريحة المئوية" تشير إلى موقع البلد ضمن توزيع الدخل، حيث أغنى 1% من السكان هم في الترتيب 100 ضمن الشريحة المئوية عالمياً، والأكثر فقراً في الترتيب 1. وبالنسبة للزيادة المئوية في الدخل الحقيقي خلال الفترة 1988-2008، نجد أن أكبر مكاسب تحققت للأشخاص عند المتوسط العالمي (الترتيب 50 ضمن الشريحة المئوية)، الذين تضاعفت مداخيلهم الحقيقية تقريباً، وضمن أوساط الشريحة الأغنى ونسبتها 1%. وليس مستغرباً أن يكون 9 من أصل 10 من مثل هؤلاء "الفائزين"، من "آسيا الصاعدة"، ويطلق عليهم نظرياً "الطبقة الوسطى في الصين". لكن مكاسب الفئات الأعلى من المتوسط العالمي انخفضت بسرعة، وأصبحت لا تذكر تقريباً عند ترتيب 85-90 ضمن الشريحة المئوية في العالم، ثم عادت وارتفعت بقوة لفئة 1% الأغنى في العالم. وربما لم يكن متوقعاً أبداً أن يكون الأقل كسباً من "الاقتصادات الناضجة" بالكامل تقريباً، ينتمون إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، التي تشمل أيضاً عدداً من الدول الشيوعية سابقاً. ولكن حتى عندما نستبعد أولئك، فإن الغالبية الساحقة في مجموعة "الخاسرين"، تنتمي إلى العالم الغني "القديم التقليدي" (الذين يسمون نظرياً "الطبقة الوسطى الدنيا" في الولاياتالمتحدة). والأشخاص عند متوسط توزيع الدخل في ألمانيا حققوا تحسناً نسبته 7%، من حيث القيمة الحقيقية على مدى 20 عاماً، مقابل 26% في الولاياتالمتحدة، وفي اليابان لم يحققوا مكاسب من حيث القيمة الحقيقية. وإجمالاً، لا يسمح "منحنى الربح" الذي يأخذ شكل الحرف اللاتيني "S"، بقياس فوري لتطور التفاوت في الدخل عالمياً، لكن يتضح أنه مقاساً بالمؤشرات الأكثر تقليدية، قد تراجع خلال السنوات العشرين السابقة من العولمة. فهل كان كل هذا للأفضل؟ ربما نعم، لكن الأمر ليس بهذه البساطة. والارتباط اللافت بين المكاسب الكبرى عند متوسط توزيع الدخل عالمياً، والذي كان في معظمه من نصيب سكان آسيا، والركود في المداخيل بين الفقراء والطبقات الوسطى الدنيا في البلدان الغنية، من الطبيعي أن يطرح السؤال عما إذا كان هذان الأمران مرتبطين. هل يسير نمو الصين والهند على حساب الطبقة الوسطى في البلدان الغنية؟ بيانات الدخل العالمية لا تتيح لنا دعم أو رفض تلك السببية، لكنها مع ذلك موحية تماماً بأن الظاهرتين قد تكونان على صلة. وطريقة مثيرة لرؤية التغيير الذي أحدثته العولمة، تكمن في مقارنة تطور توزيع الدخل مع مرور الوقت، لدى فئة العشر الثاني من الدخل في الولاياتالمتحدة، مع فئة العشر الثامن من الدخل لدى سكان المدن الصينيين. بالطبع، نحن نقارن الفقراء نسبياً في الولاياتالمتحدة مع الأغنياء نسبياً في الصين، لكن أخذاً في الاعتبار الفوارق في الدخل بين البلدين، وبما أن المجموعتين يمكن اعتبارهما في نوع من المنافسة على الصعيد العالمي، فإن المقارنة منطقية. وحتى لو كانت السببية لا يمكن تأكيدها، فإن الارتباط بين الاثنين لا يمكن تجاهله، فما هي تأثيراته؟ أولاً؛ إذا كنا نرى مجازاً أن حركة العمالة الصينية من خلال توزيع الدخل العالمي، تسبب تراجعاً لدى الطبقات الوسطى الدنيا في "الاقتصادات الناضجة"، فإنه من المرجح أن تلي تلك الموجة على الأقل موجات إضافية عدة، آتية إما من باقي الصين، أو لاحقاً من إندونيسيا ونيجيريا والهند. هل هذا يعني أن التطورات، الإيجابية من وجهة النظر العالمية، قد تكون مزعزعة للاستقرار بالنسبة للبلدان الغنية كل على حدة؟ ثانياً؛ إذا أخذنا بوجهة النظر المبسطة التي تقول إن الديمقراطية ترتبط بطبقة وسطى كبيرة وحيوية، فهل يعني ذلك أن التفريغ المستمر للطبقة الوسطى في العالم الغني، مع نمو المداخيل لدى الفئة الأعلى، سيبتعد بها عن الديمقراطية نحو أشكال من البلوتوقراطية؟ هل يمكن أن تصبح الصين أكثر ديمقراطية بصعود الطبقة الوسطى، فيما الولاياتالمتحدة أقل ديمقراطية مع تقلص هذه الطبقة؟ ثالثاً؛ ماذا تعني تلك الحركات بالنسبة للاستقرار العالمي إذا استمرت لبضعة عقود؟ وتشكيل طبقة وسطى عالمية، أو "التجانس" المحسوس للنسبة التي تشكل أغنى 1% في العالم، بغض النظر عن البلدان، قد يكون جيداً للاستقرار العالمي والاعتماد المتبادل، وسيئاً اجتماعياً للبلدان فرادى، حيث الأغنياء "ينفكون" عن مواطنيهم. إن الحركات التي نشهدها تؤدي إلى إعادة توازن اقتصادي في الشرق والغرب، حيث يمكن أن ينتهي المطاف بحصص في الإنتاج العالمي بالنسبة للجانبين، تقترب مما كان عليه وضعهما قبل الثورة الصناعية. كما أن هذه الحركات تفضح التناقض في النظام العالمي الحالي، حيث السلطة السياسية تتركز على مستوى الدولة القومية، فيما القوى الاقتصادية للعولمة قد تجاوزتها. نوع المقال: الصين مقالات أقتصادية الولاياتالمتحدة الامريكية