خلال ذروة الأزمة في أوكرانيا، أصر الخبراء الحقيقيون والخياليون على الإشارة إلى «الانقسام» بين الشرق والغرب. وفقاً لهذا التأويل، تنقسم أوكرانيا انقساماً واضحاً كتلتين متجانستين وغير قابلتين للمصالحة. الرسالة الضمنية هي أن لا مفر من التقسيم بل هو مرحب به. وفيما فرّ (الرئيس المعزول) فيكتور يانوكوفيتش من كييف الى خاركوف «الانفصالية» والمؤيدة للروس في 22 شباط (فبراير)، أبدى الخبراء خشيتهم من انه سيضرم نار الحرب الأهلية بين الجماعات الأوكرانية التي لا تقبل المصالحة. ولكن كما في أكثر حالات القسمة الثنائية، تعمم هذه الآراء الغموض بدلاً من ان تكشف الحقائق وتوضحها، منشئة صورة تبسيطية عن حالة معقدة. كما هو بيّن لكل زائر، فإن مدينة «لفيف» الواقعة في أقصى غرب البلاد تختلف كلياً عن مدينتي لوهانسك ودونتسك في اقصى شرق أوكرانيا. «لفيف» مؤيدة للغرب وتساند الاستقلال الأوكراني وصوّتت دائماً ضد فيكتور يانوكوفيتش و«حزب الأقاليم» الذي يتزعمه، تتكلم الأوكرانية وتشجع الثقافة الأوكرانية فيما تحتفظ بطابعها متعدد اللغات والثقافات وبتنوعها الظاهر، وترفض الماضي السوفياتي. على خلاف ذلك، تميل لوهانسك ودونتسك الى روسيا، وترتابان في الاستقلال الأوكراني وتؤيدان يانوكوفيتش وحزبه (عندما تريدان التعبير عن سخطهما تصوتان لمصلحة الحزب الشيوعي الستاليني). وتتكلمان الروسية وتفضلان الثقافة الروسية وتسود فيهما لغة واحدة وثقافة واحدة، وهما متجانستان وتفتخران بالماضي السوفياتي. بيد أن الصورة الواضحة هذه تصبح مشوّشة في محيط لوهانسك ودونتسك. ففي الريف والبلدات الأصغر يتكلم السكان الأوكرانية، بل تسعد الأكثرية الواسعة من الناس في المدينتين - باستثناء الشوفينيين من مؤيدي روسيا- بالتحدث مع الناطقين بالأوكرانية. وفي «لفيف» في الغرب، يمكن العثور على الفوارق ذاتها. الأكثرية الساحقة من السكان تتقن الروسية الى حد ما، وتتكلمها بسعادة وتقرأ الصحف والكتب الروسية وتشاهد التلفزيون الروسي. وتحظى المدينة بشعبية لدى السياح الروس المعجبين بجو أوروبا الوسطى الذي يعمّها وبهندستها القديمة وفرادتها الأوكرانية. وبين أقصى الشرق وأقصى الغرب، يزداد إبهام الانقسام المفترض. وكلما توجهت شرقاً ينخفض نسبياً عدد المتحدثين بالأوكرانية في الظروف اليومية. بالمعدل ذاته، وإذا سلكت الطريق المعاكس ينخفض معدل الناطقين بالروسية. وفي أجزاء واسعة من البلاد، خصوصاً وسطها، يتحدث الناس اللغتين. كثر من أبناء القومية الروسية الذين يشكلون خُمس السكان ويتركزون في لوهانسك ودونتسك القرم يحوزون معرفة باللغة الأوكرانية تكفيهم للعمل، ويرفض التحدث بالأوكرانية بعض الروس المتطرفين خصوصاً في القرم. في المقابل تعتبر أكثرية أبناء القومية الأوكرانية من المتحدثين باللغتين بصرف النظر عن مكان الإقامة. وتظهر العاصمة كييف هذه النقطة بوضوح. فأكثرية المحادثات التي تُسمع في الأماكن العامة تكون بالروسية- وإذا تحدثت بالأوكرانية إلى الناطقين بالروسية فسيجيبون بالأوكرانية. لكن الأهم أن اللغة المفضلة لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بالثقافة المفضلة (روسيا ضد الغرب) أو الخيارات السياسية (يانوكوفيتش ضد الديموقراطيين)، كما تفترض مقولة الانقسام بين الشرق والغرب. ولا عجب أن تظاهرات مناهضة ليانوكوفيتش شهدتها في الشهور الثلاثة الماضية كل المدن الكبيرة في الجنوب الشرقي الذي يتكلم سكانه الروسية مثل خاركوف ودونتسك ودنيبربتروفسك وزاباروجيا وأوديسا بل حتى في القرم. واللافت أن أكثرية ضحايا أعمال القمع التي مارستها الشرطة، من شرق البلاد. في المحصلة، صورة الكتلتين المتنافستين خاطئة تماماً. وأوكرانيا على مقدار كبير من التنوّع مع عدد من اللغات والثقافات والهويات والميول السياسية. بهذا المعنى، يشبه التنوع الأوكراني ذلك الموجود في كل بلاد العالم تقريباً: الولاياتالمتحدة وكندا وإيطاليا وألمانيا وتركيا والبرازيل والهند وغيرها. ويمكن للتعدد في بعض الأحيان أن يجلب المتاعب (كما في حالة بريطانيا وأسكتلندا أو إسبانيا وكتالونيا) أو أن يكون سبباً في حيوية البلاد (الولاياتالمتحدة وكندا)، لكننا نادراً ما نفترض أنه يجب أن يؤدي إلى استحالة الحكم أو إلى التقسيم- إلا، كما يبدو، في الحالة الأوكرانية في حين أن التعدد هو الوضع الطبيعي في أماكن أخرى. ثمة أسباب لهذه الرؤية المبهمة، لكن العلة المركزية تكمن في عجز النخب الروسية ومؤيديها في الغرب عن الاعتراف بأن أوكرانيا بلد حقيقي وأن الأوكرانيين شعب مركّب، والانقسام الفعلي هناك ليس بين الشرق والغرب بل بين القوى الديموقراطية و «حزب الأقاليم». وتتركز قوة هذا الحزب في الجنوب الشرقي نظراً إلى أن أكثر قادته (معظمهم من الشيوعيين السابقين)، يتحكمون بشبكات المعلومات وبالموارد الاقتصادية منذ العهد السوفياتي. وتقوم سيطرتهم منذ استقلال أوكرانيا على بنائهم تحالفات مع الجريمة المنظمة ومع الأوليغارشيين، خصوصاً أغنى أغنياء أوكرانيا رينات اخمتوف. ويمكن الانقسام الحقيقي أن ينتهي نهاية طيبة في المستقبل القريب. ونظام يانوكوفيتش على حافة الانهيار، إذ خرج القسم الأكبر من البلاد عن سيطرته؛ ويتوالى فرار أعضاء بارزين من «حزب الأقاليم» من كييف بمن فيهم يانوكوفيتش ذاته وتعهدت وزارة الداخلية مساندة «شعب كييف» وليس الحكومة. وسيطرت المعارضة على البرلمان فأعاد العمل بدستور 2004 الذي يحد من سلطات الرئيس ويُمكّن المشرعين من تعيين حكومة إصلاحية التوجه. وإذا سقط النظام، سيسقط معه «حزب الأقاليم» وتنتهي سيطرته على الجنوب الشرقي. عندها سيُمكن أوكرانيا- السعيدة بتنوعها- أن تصبح بلداً طبيعياً. نوع المقال: سياسة دولية