غذت المواجهات الأخيرة الدائرة في جمهورية أفريقيا الوسطى وتهديدات الحرب الأهلية في جنوب السودان بين الأطراف المختلفة، نظريةَ الحروب الدينية بين المجموعات السكانية المتباينة من حيث معتقدها وانتمائها الديني، وهي مواجهات لا تقتصر على منطقة دون غيرها، فالعراق على سبيل المثال يشهد عمليات إرهابية تكتسي أحياناً طابعاً مذهبياً، ويزداد التوتر السياسي بين الحكومة المركزية في بغداد والمناطق الغربية من البلاد بدعوى التهميش والإقصاء اللذين يتعرض لهما السنة، ثم هناك أيضاً التنافس بين إيران ومنافسيها الإقليميين، والذي يتوسل الخطاب الديني والطائفي لإشعال فتيله وتأجيج أواره. ولا ننسَ الهجمات التي استهدفت مدينة فولجوجراد الروسية والصراع المزمن هناك بين السلطة والجمهوريات المسلمة في شمال القوقاز التي تهيمن عليها موسكو، وهي صراعات تتميز كلها بنفس ديني واضح وبعد عقدي لا تخطئه العين... الأمر الذي يساهم في ترسيخ فكرة الأسباب الدينية للحروب والنزاعات الدولية في أكثر من منطقة، لاسيما وأن مثل هذه الفكرة تجد لها سنداً تاريخياً، إذ من المعروف ذلك الدور السلبي الذي لعبه التعصب، وليس الدين، في مراحل تاريخية معينة بعدما اندلعت حروب بين الدول بدعوى الدين والتباينات العقدية. وربما زاد من إذكاء نظرية المواجهات الدينية في وقتنا المعاصر كتاب صامويل هينتجتون حول صدام الحضارات الذي رأى في الدين المحرك الأساسي للصراعات المستقبلية، ثم جاءت التحولات الجيوساسية مثل سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الأيديولوجية لتنتعش الأفكار والنظريات التي تجعل من الأديان وقوداً للصراعات المقبلة. والحقيقة أن الحروب الدينية لا تنسجم مع المعطيات الموضوعية والتحليل الرصين، وحتى إذا كانت في بعض الأحيان سبباً في نشوب النزاعات، إلا أنها ليست سوى عامل واحد ضمن عوامل أخرى عديدة، وسيكون ضرباً من الاختزال المخل إرجاع الأزمات الكبرى إلى سبب واحد مهما كان باعتباره الوحيد الذي يحرك خيوط الأزمة. فأي نظرة فاحصة إلى المواجهات، أو النزاعات المنتشرة حول العالم، تُبيِّن أنها ليست وليدة عامل واحد، بل تتضافر جملة من الأسباب لإيقاد الصراعات. لكن البعض، وبخاصة في الإعلام، يركن إلى الاستعراض المبسط والسطحي أحياناً للصراعات بإسناد المشكلات المعقدة والأزمات الممتدة إلى عامل واحد، لأنه الأسهل في العرض والتقديم لجمهور متعطش للفهم وغير مستعد للتأني والوقوف ملياً على خلفيات الأزمة الحقيقية. هذه العروض المبسطة للأزمات التي يسقط فيها جزء كبير من وسائل الإعلام تبدو متهافتة وتفتقد التماسك عند ممارسة التحليل الرصين وإخضاع الظواهر السياسية والاجتماعية للدراسة والتمحيص. ففي جمهورية أفريقيا الوسطى التي شهدت خلال الشهور الأخيرة مواجهات بين المسيحيين والمسلمين، لم يكن الأمر مرتبطاً بخلاف ديني كما يتصور البعض، لاسيما وأن السلطات الدينية في الجانبين ناشدت أتابعها بالتزام الهدوء وعدم الانجرار لعمليات عنف انتقامية ضد أتباع الديانة الأخرى، بل إن المسيحيين الذين يمثلون 80 في المئة من تعداد السكان عاشوا طيلة سنوات بأمن وسلام مع مواطنيهم المسلمين ولم تظهر مشاكل إلا مؤخراً. بيد أن التعايش السلمي في أفريقيا الوسطى تعرض للاهتزاز عقب دخول متمردي «سيليكا» إلى العاصمة بانجي وإطاحتهم بالحكومة وبالرئيس، حيث أقدموا على أعمال مشينة استهدفت السكان، ليس لأنهم مسيحيون، بل لأنهم مستضعفون ويفتقدون للحماية. ومعروف أن ميليشيا «سيليكا» تضم في صفوفها مسلمين وعناصر أجنبية، وأمام هذا الوضع تكتل المواطنون ضمن مجموعات مسلحة لحماية أنفسهم، ليبدو الصراع وكأنه ديني، والحال أنه سياسي واقتصادي مناط الصراع فيه السلطة والموارد. وفي جنوب السودان تلوم المعارضة التي انشقت عن الحكومة ولجأت للسلاح، الرئيس سيلفا كير على أنه أبدى مواقف تصالحية ومذعنة تجاه حكومة الخرطوم في الشمال، وذلك بموافقته على دفع ثمن مرتفع لمرور نفط الجنوب عبر أراضي الشمال. ويبدو أن كير قبل بالاتفاق مع الخرطوم لأنه كان في حاجة إلى موارد مالية لإدارة حملته الانتخابية في عام 2015 وترشحه مرة أخرى للرئاسة. وحتى يُخرس صوت المعارضة ويبعدها عن ساحة المنافسة، زجّ بمعظم قادتها في السجون، وزاد الطين بلة إقالته لنائبه رياك مشار إثر إعلانه ترشحه في الانتخابات الرئاسية. ورغم أن الطرفين معاً مسيحيان، لم يحل ذلك دون اندلاع الصراع الذي أخذ هذه المرة بعداً عرقياً، فيما يظل السبب الأول سياسياً. وسينطوي الأمر على خطورة أكبر إذا ما سعى البعض إلى إسباغ الطابع الديني على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، علماً أنه لا الإسرائيليون يسعون إلى نشر اليهودية في أوساط الفلسطينيين، ولا العرب يريدون من الإسرائيليين اعتناق الإسلام أو المسيحية، ذلك أن الصراع في المحصلة النهائية يدور على الأرض التي يراد تحريرها. وفي دليل آخر على عدم واقعية العوامل الدينية لوحدها في تأجيج الصراعات، دون إنكار مساهمتها في تعقيد الأمور، ما يجري حالياً من تقارب تركي إيراني. فرغم الاختلاف المذهبي والتوتر الطائفي الذي يكاد يعصف بالشرق الأوسط بين السنة والشيعية، أعلت إيران وتركيا مصالحهما المشتركة على الصعيدين الاقتصادي والتجاري وآثرتا التقارب على التنافر. كما أن التنافس الشرس بين واشنطن وبكين لا علاقة له بالدين، ولا الصراعات المحتملة بين الصين واليابان، وبين هذه الأخيرة وكوريا الجنوبية، لها أي ارتباط بالعقائد. ولئن كان الدين مكوناً لا غبار عليه في تشكيل هوية الشخص، أو الجماعة، إلا أنه ليس الوحيد في ذلك، بل توجد إلى جانبه مكونات أخرى لا تقل أهمية في صياغة وتحديد الهوية، وعندما تندلع الأزمات قد يلعب الدين دوراً محرضاً من شأنه مفاقمتها وتأجيج الصراعات، إلا أنه ليس العامل الذي يؤدي إلى اندلاعها، بل إن الدين وفي أحيان كثيرة قد يضطلع بدور إيجابي يخفف من حدة الأزمات إذا ما خاطب المخزون الروحي للأشخاص والمجتمعات وابتعد عن التعصب والتطرف. نوع المقال: سياسة دولية العالم الاسلامى الشرق الاوسط