كنا، ومازلنا، نصر على ضرورة أن يكون النص الدستوري الخاص بالشريعة قاطعا "الشريعة الأسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، ولمن يسألون عن المقصود بالشريعة الإسلامية، وبأي مفهوم تطبق، أقول: إنها الشريعة التي تؤمنون أو تزعمون الإيمان بها إن كنتم مسلمين. وهي الشريعة التي نزلت منذ 15 قرنا، وحكمت معظم أرجاء العالم القديم قرونا طويلة، عرفها فيها حتى من لا يؤمن بها، وحاربها فيها من عاداها زاعما أنه يحاربها عن معرفة بها، وإذا: لا مجال للسؤال. نريد تطبيق الشريعة كما طبقت في الحقبة الأخيرة من الدولة العثمانية، أقرب النماذج التاريخية. ولمزيد من الحسم: نريد تطبيقها حسب القوانين التي انتهت من إعدادها لجنة تطبيق الشريعة في مجلس الشعب في السبعينيات في نصوص كاملة لكل القوانين، وأقول إن المماطلة في الاستجابة لتطبيق الشريعة بدعوى عدم وضوح المقصود بها، هي هي مماطلة بني إسرائيل في ذبح البقرة بدعوى أن البقر تشابه عليهم، وكما كان الحل بالنسبة لهم بسيطا منذ البداية، لولا أن شددوا على أنفسهم، وهو أن يمدوا يدهم إلى أول بقرة يجدونها ليذبحوها، فإن الحل بالنسبة لنا أقرب إلينا من حبل الوريد، فالمسلم من المفترض أنه يعرف الشريعة التى يؤمن بها، وإلا فكيف آمن؟ وغير المسلم يمكنه الاطلاع بالتفصيل على شريعة كملت منذ 15 قرنا، وطبقت بخيارات مختلفة قرونا طويلة. وهناك كلمات عبد القادر عودة رحمه الله أرجو أن تتأملوها على مهل، وأن تنشغلوا بمعناها أكثر من انشغالكم بكيفية الرد عليها، وأن تعملوا على نشرها، من باب "زكاة العلم"، وقد قال رحمه الله: "لقد أدت الشريعة وظيفتها طالما كان المسلمون متمسكين بها عاملين بأحكامها (انتبهوا إلى قوله: عاملين بأحكامها) تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، لا صوت إلا صوتهم، ولا كلمة تعلو كلمتهم، وما أوصلهم لهذا الذي يشبه المعجزات إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة، والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم من نير الجهالات والشهوات، وجعلتهم يعتقدون أنهم خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها (لاحظ: أهملوا أحكامها) تركهم الرقي وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا يعمهون فيها من قبل، فعادوا مستضعفين مستعبدين، لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع عن ظالم. وقد خيل للمسلمين، وهم في غمرتهم هذه، أن تقدم الأوربيين راجع لقوانينهم وأنظمتهم، فذهبوا ينقلونها وينسجون على منوالها، فلم تزدهم إلا ضلالا على ضلالهم، وخبالا على خبالهم، وضعفا على ضعفهم، بل جعلتهم أحزابا وشيعا، كل حزب بما لديهم فرحون، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. ولو أراد الله بالمسلمين خيرا لعلموا أن الشريعة الإسلامية، وقد جاءت كاملة لا يشوبها نقص، حاملة في طياتها وسائل التقدم والتطور المستمر للمجتمع، هى أصلح الشرائع لعصور التقدم وعصور التأخر على السواء، لأنها فى كل الأحوال ترمي إلى أن تكون الجماعة الصالحة، وتوجهها دائما للتقدم المستمر، والتطور الصالح، ولا تقنع من ذلك بما هو دون الكمال التام"*. هذه هي كلمات شهيد الانخداع بالعسكر "عبدالقادر عودة" من لم يكن يعرف فليعرف، ومن لم يكن قرأها فليقرأها، ومن كان ينوي أن يبرر مالا يبرر فليحذر، ومن ولغ في نجاسة التبرير فليطهر نفسه. إنها كلمات "عبد القادر عودة" عن الشريعة الإسلامية، من حيث هى كل لا يتجزأ، مع إشارة خاصة إلى أحكامها. أقدمها ليعرف أبناء الجيل الجديد فكر أسلافهم فلا ينخدعوا عنه، وليعرفوا أن ما علق الشهداء من أجله على أعواد المشانق كان الشريعة كلها، وأن هؤلاء الأسلاف الشهداء لو ارتضوا التجزئة لما خاضوا صراعا، ولظلوا في مأمن من الطغاة، ولواصلوا حياتهم، ولكن ما قيمة مثل هذه الحياة؟ ولتكتمل الدائرة إليكم بعض ما قاله الأستاذ سيد قطب: "إن الجاهلية ليست فترة من الزمان، ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس ويوجد اليوم ويوجد غدا، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام والمناقضة للإسلام". وقال أيضا: "والناس، فى أى زمان وفي أي مكان، إما أنهم يحكمون بشريعة الله، فهم إذن في دين الله، وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر، فهم إذا في جاهلية". ومن الكذب الغليظ ادعاء أن النص على "مبادئ" الشريعة في الدستور يلزم بتطبيق أحكامها، ويحول دون صدور قانون مخالف لها، ذلك أن النص موجود بتفاصيله منذ نحو 40 سنة، وهي سنوات خولفت فيها أحكام الشريعة جهارا، وصدرت خلالها أسوأ القوانين المناقضة للشريعة. فهل تراجعت المحكمة الدستورية عن تفسيرها المناقض للشريعة؟ ثم هل هناك مانع من أن تصدر تفسيرا جديدا أسوأ من السابق؟ وقبل هذا كله: هل يتعلق الأمر بنص دستوري أم بتفسير محكمة؟ أعتقد أن الدستور نص لا يتسع لاحتمالات تجعل من الممكن لي عنقه عبر التفسيرات السيئة والنفوس المريضة، أو هذا ما يفترض. ثم هل تعرفون عدد من ضحوا بأرواحهم وبحياتهم فى المعتقلات وسلامتهم تحت التعذيب منذ السبعينيات للوصول إلى نص واضح بشأن الشريعة؟ ماذا يقول من يردد هذا الكلام بين يدى الحكم العدل على الصراط لمئات الشهداء والضحايا؟ وسؤال آخر: ألم تجبر المحكمة الدستورية مؤسسة الرئاسة على التراجع من قبل؟ لماذا ندخل "مباراة" غير مضمونة النتيجة مع محكمة بناها من بناها لتكون حصنا لدولة "الجنرال في القلب والأقليات المتساندة"؟ ولماذا لم نضع نصا قاطعا وينتهي الأمر؟ و"العيوب" لا "العيب" في النص الراهن: 1 أن النص موجود بصورته نفسها منذ نحو 40 سنة خولفت فيها الشريعة عملا وقانونا بكل الطرق. 2 أن التفرقة بين الشريعة ومبادئها، وبين المبادئ والأحكام من عمل "الذين جعلوا القرآن عضين". 3 أن الأصل هو الشريعة لا مبادئها "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ". ومن يدعو إلى خلاف الأصل يقع عليه عبء إثبات دعواه. يعني لست أنا المطالب بإثبات سبب مطالبتي ب"الشريعة". 4 أن حذف كلمة "مبادئ" هو مطلب (كل) الإسلاميين منذ السبعينيات، وأحيلك إلى أعداد مجلتى الدعوة والاعتصام لتقرأ فيها ما كتبته قامات كبيرة ونفوس جبلت على التضحية. 5 أن هناك مئات الشهداء وآلاف المعتقلين والمعذبين ضحوا من أجل النص على تطبيق الشريعة بصراحة ووضوح وقطع، فبأي وجه نلقاهم إن أهدرنا تضحيتهم وقبلنا بما جاهدوا ضده؟ 6 أن ما يتذرع به البعض من عدم ملائمة المناخ سبب أدعى للتمسك بنص قاطع، إذ إن المناخ غير الملائم قادر ببساطة على إهدار أي نص مائع. 7 راجع فصل "لا إله إلا الله منهج حياة" من "المعالم" للأستاذ سيد قطب، ورسالة إلى "أي شيء ندعو" للأستاذ حسن البنا. 8 أن المحكمة الدستورية التي اتخذت من كلمة مبادىء ذريعة لإهدار النص برمته مازالت قائمة كما هي وأشد عداء للشريعة. ولمن يماحكون بأن تعدد الخيارات والمفاهيم للنص الواحد، أو في الحكم الواحد يربكهم. أقول: وهل هناك قانون يطرح نصه خيارا واحدا؟ لو كان الأمر كذلك لما احتجنا إلى المحاكم والقضاة. ألا تقرأون في أي قانون جنائي حول العالم "يعاقب بالحبس بحد أقصى كذا وغرامة لا تتجاوز كذا كل من........... إلخ"؟ إن هذا النص يضعنا أمام عشرات الاحتمالات للعقوبة، حسب عشرات الاجتهادات للقضاة، فهل نلغي القانون الجنائي كله لأن به نصوصا تطرح خيارات متعددة، على نحو يربك السادة المماحكين؟ ليس مناط الاختلاف إن الحديث الشريف هو المصدر الثانى من مصادر الشريعة، وهو منبع الكثير من "مبادئها" بقدر ما هو منبع الكثير من "أحكامها". يقول تعالى فى القرآن الكريم "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" وهو صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن والحديث معا "وما ينطق عن الهوى" ويقول الرسول "ألا أنى قد أوتيت القرآن ومثله معه". وحجة الاختلاف هي الحجة نفسها التي تذرعت بها المحكمة الدستورية لإهدار مادة الشريعة برمتها "المادة الثانية من الدستور" طوال نحو 40 سنة، ومعنى تكرار التذرع بها أن الحال ستبقى على ما هي عليه، يعنى ستظل المادة مهدرة. ثم إن كل القوانين والدساتير يعنى كل "الشرائع" في العالم يتطرق إليها الاختلاف (بدليل هذا الكم من الدعاوى أمام المحكمة الدستورية للاختلاف في مفهوم النص) لكن أحدا لم يقل إن مقتضى الاختلاف هو إهدار القانون والالتزام فقط ب"مبادئه"، فلماذا "ترخصون" الشريعة الإسلامية وتجعلونها أقل من أي قانون؟ وهل الاختلاف حول القوانين امتهان لها؟ لو كان الأمر كذلك لحوكم كل من يرفع دعوى أمام الدستورية بتهمة إهانة القانون! إن أكبر إهانة هو "الركن على الرف" أو أن "نبوسها ونحطها جنب الحيط". إن شريعتنا واضحة بينة وملزمة، يقول تعالى في سورة الجاثية: "وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيم" ويقول فى السورة نفسها "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُ الْمُتَّقِينَ": جعلناك على شريعة فاتبعها (مش اتبع مبادئها) وهو نص شرعى قطعي الثبوت قطعي الدلالة لا يحتاج إلى تفسير. لماذا تنازلتم عن الشريعة حتى في مطالبكم؟ هل تشعرون فعلا بأننا بكل هذا الضعف؟ إن أهل غرناطة بعد استسلامها للقشتاليين كانوا يأنسون فى أنفسهم قوة أكبر، ويرفعون سقف مطالبهم إلى حد أكبر (ألا يطبق عليهم غير شريعتهم) وقد قاتلهم الصليبيون قتالا لا طاقة للبشر به، ومع ذلك مازالت منهم فى الأندلس بقية ومازالوا يجاهدون من أجل حقوقهم حتى اليوم. "اصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين" هذا هو ما أمرنا الله به، فلننطلق لتنفيذه "استقم كما أمرت" ولنعلم أن إبراهيم عليه السلام عندما أمرة الله بأن يؤذن في الناس بالحج، قال يارب وما يبلغ أذاني، قال: أذن وعلينا البلاغ. وأذن إبراهيم، ولم يكن بقربه إنسان، لا بحيث يسمعه، ولا بحيث يراه. أذن إبراهيم كما أمره الله، فجاء الناس للحج كما أراد الله "فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ". أذنوا وعلى الله البلاغ. هذه هي الشريعة التي نؤمن بها، والتي لن نراها تطب إلا بالثورة التى ندعو الجميع إليها، والثورة جهد الجماعة وإرادة الشعب كله التي ينجزها، لا بناء على دعوة أحد، ولا بسبب حدث ما، ولكن عندما تكتمل شروطها الموضوعية، وإن كان للأحداث أو للدعاة دور ما، فهو دور "قدح الزناد" ليس إلا. رابط المقال: http://mubasher-misr.aljazeera.net/studies/2014/01/2014110104540700814.htm