أصبح واضحا جليا للقاصي والداني التناقض الواضح الذي لا يحتمل أكثر من تأويل تناقض قوى اليسار والليبرالية والعلمانية قبل وبعد3 يوليو، وبات من المسلم به أن النخبة السياسية الموصوفة بالتيار المدني فضلت مصالحها الحزبية والشخصية على مصلحة الوطن واستقراره وعبوره إلى حقبة ديموقراطية، فلطالما تشدقوا بالحريات وعدم تكميم الأفواه وحرمة الدماء والمشاركة لا الإقصاء قبل الانقلاب ثم تحولت كل هذه الدعوات إلى شعارات جوفاء لا معنى لها ولا تطبق على أرض الواقع حتى أثبتوا للعالم أجمع أنها أباطيل ظلوا يرددونها لا لشيء إلا لمجرد الوصول إلى غايتهم في إسقاط أول رئيس مدني منتخب ثم بعد ذلك الإلقاء بها في أقرب سلة مهملات .. فهي إذن ليست بمباديء لديهم وإنما هي وسيلة وكل الوسائل تبلى للوصول إلى "المصلحة". وقد رصد خبراء تناقضات النخبة المدنية وأبرز رموزها قبل وبعد وصولها للسلطة، مؤكدين ما تعانيه من ازدواجية التفكير والمعايير والسلوك، فهي ابتداء جاءت للسلطة بطريقة تتناقض تماما مع ما كانوا يدعون إليه، فبعد فشلهم في جميع الاستحقاقات الانتخابية قبلوا بالمجيء للسلطة بغير الآليات الديمقراطية التي طالما تشدقوا بها، وشهدت العديد من الملفات في حكمهم تدهورا كبيرا، تلك المتعلقة بفرض ومد حالة الطواريء والاعتقالات وبالحقوق والحريات العامة لشرائح واسعة، حيث شهدت انتهاكات خطيرة وهم بالسلطة، سواء للمواطنين والعمال والطلاب، دون أن يحرك أحدهم ساكنا، ولم يعترضوا على انتهاكات السياسات القمعية للسلطة، بل إنهم يقومون بتبريرها سواء هم أو منظمات حقوق الإنسان المتبنية نفس الشعارات البراقة. من جانبه يرى عمرو عبد الهادي - عضو جبهة الضمير -، حسبما نقلت عنه جريدة "الحرية والعدالة" أن النخبة المدنية ليست كتلة واحدة، ففيها أقلية لازالت ملتزمة بالديمقراطية وتؤمن بها، خاصة شريحة من الشباب داخلها، وهذه المجموعة تؤمن بالآليات الديمقراطية وما تسفر عنه من نتائج أيا كانت وأيا كان التيار الذي تأتي به للحكم ما دام جاء بالصندوق، ولكن أغلبية النخبة المدنية تطلعاتها للسلطة جعلتها تدوس على الديمقراطية وترتكب حماقات وتعاني ازدواجية في التفكير والمعايير والتصرفات وهذا هو سلوك أغلبها. ودلل "عبد الهادي" على كلامه بأن عددا من المرشحين الخاسرين بالانتخابات الرئاسية الذين كانوا جزءا من التيار المدني وقيمه طيلة الوقت نجدهم بعد الانقلاب يقبل أحدهم طواعية بأن يدعم الفريق السيسي، وبعضهم يدعم مجيئه بتفويض شعبي وبدون انتخابات، والآخر تنحى صامتا. واستشهد "عبد الهادي" بموقف محمد سلماوي المتحدث باسم لجنة تعديل الدستور الخمسينية من القضاء العسكري حيث قال سلماوي إن مثله مثل القضاء العادي، أما حكومة الببلاوي فتتجه للأسوأ بجميع المجالات، وشهدت فيها الحريات عموما وخاصة حريات العمال والطلاب تراجعا كبيرا، بينما هذه الرموز المدنية نفسها اعترضت بشدة على حالة الطواريء ببورسعيد ومدن القناة التي كان بها انفلات أمني كبير، بينما هؤلاء أنفسهم هللوا لمد حالة الطواريء ثلاثة أشهر، ليس هذا فحسب، فهناك تناقضات كثيرة يفعلونها بأنفسهم ليكشفوا بأيديهم حقيقتهم للشعب المصري. واعتبر "عبد الهادي" أن ملف العمال هو أكثر الملفات التي تكشف تناقض دعاة المدنية وحريات العمال وحقوقهم التي طالما رفعوها بعهد الرئيس مرسي ويتغاضون الآن عن قمعها والتضييق عليها، بعد أن كان العمال يتمتعون بحق الاعتصام حتى بمكتب الوزير نفسه الآن يتم تكميم أفواههم وقمعهم عند المطالبة بأبسط حقوقهم المشروعة ونموذج ذلك ما حدث من قمع للعمال بمدينة المحلة والسويس، ولم نسمع تحركا من وزير العمال القيادي العمالي الذي وعد بتطبيق الحد الأدنى للأجور خلال أيام ثم أرجأته حكومته لشهر يناير؟؟ كذلك طالما تحدث رموز التيار المدني بحكومة الانقلاب عن حقوق الطلاب وحرياتهم بينما نجد اتجاها لحرمان الطلاب من العمل السياسي بالجامعات وتقييدهم والعودة بهم لما قبل حكم مرسي أي لعهد المخلوع. من جانبه يرى د.بدر شافعي أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أنه من الواضح أن هناك تناقضات في المواقف للرموز المدنية بعد وصولها للسلطة بداية من رئيس الوزراء بحكومة الانقلاب الذي قدم استقالته من قبل عندما كان نائبا لرئيس الوزراء في عهد حكومة شرف على خلفية أحداث ماسبيرو التي راح ضحيتها عشرات الأقباط، في حين لم يحرك ساكنا لاستشهاد الآلاف في عمليات الحرس الجمهوري، رمسيس، المنصة، رابعة، النهضة وغيرها، بل وجدناه يبرر استخدام القوة لفض الاعتصامات على غرار ما فعلته القوات الأمريكية في فيتنام إبان الحرب العالمية الثانية. وتابع "شافعي" :"وبالتالي ليس بمستغرب حدوث تراجع في التصريحات، وتناقضات في المواقف، فقد تراجع منذ فترة عن تطبيق الحد الأدنى للأجور الذي وعد به لعدم توافر الموارد المالية، لكن حكومته عدلت عن ذلك مؤخرا خشية ازدياد حالة السخط الشعبي عليها، مضيفا أنه من الممكن القول بأن الذي يحكم هؤلاء ليس المباديء بقدر المصالح والمواقف الشخصية، ووقت الجد يتنصل كل وزير من المسئولية، وربما هذا يفسر أسباب تنصل وتراجع كل من وزيري العدل والتعليم العالي عن إصدار الضبطية القضائية، ذلك ليس اعتراضا على مبدأ تقييد الحريات التي تعتبر أكبر مكتسبات ثورة يناير، ولكن بسبب تخوفهم من غضب الطلاب داخل الجامعات وإذا كانوا هؤلاء فعلا لا يعلمون شيئا فالأجدر بهم الاستقالة وعدم الاستمرار في مناصبهم لأن هذا تجاوزا لهم. وأضاف "شافعي" نفس الأمر ينطبق على دعاة الليبرالية التي تعني الديمقراطية والحرية السياسية، وكذلك الحال بالنسبة لدعاة المدنية التي هي النقيض للعسكرية، فنجد هؤلاء يقبلون بالمجيء كوزراء ليس عبر صناديق الانتخابات الديمقراطية، ولكن عبر انقلاب عسكري، لأن هؤلاء لو كان لديهم ثقل شعبي كبير لوافقوا على اقتراح الرئيس مرسي بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، من شأن الفائز فيها تشكيل الحكومة ومشاركة الرئيس في القرارات، لكن هؤلاء ليس لهم ثقل شعبي كبير. ودلل "شافعي" بإمكان معرفة ذلك بالعودة إلى نتائج الانتخابات البرلمانية في 2011، حيث لم يحصل مثلا الناصريون والقوميون على أكثر من 5%، بل أن حزب كالكرامة كان ضمن تحالف الإخوان، أما حزب كالدستور فلم يشارك أصلا في أية استحقاقات انتخابية، فيما لم يحقق الوفد نسبة 5% المعتادة، وهكذا وبالتالي ليس بمستبعد على هؤلاء أن يتحالفوا مع العسكر أو الفلول على حساب المباديء الديمقراطية على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة. ورصد "شافعي"أيضا نفس التناقض الذي نجده في منظمات حقوق الإنسان التي يسيطر عليها اليساريون والقوميون الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها من أجل حمادة المسحول، في حين خرست ألسنتهم أمام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الآن، لذلك سيفقد هؤلاء مصداقيتهم أمام الشعب الذي ستتكشف له الأمور عما قريب، ويعلم أنه وقع أمام حالة خداع كبير. من جانبه يرى أحمد خلف - باحث بمركز الحضارة للدراسات السياسية -أنه لأمر مؤسف أن يجد المرء نفسه أمام شخصيات تعلم منها عددا من القيم والمباديء العليا التي تتعلق بالحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الفقراء ونصرة الضعفاء ثم نجدهم يتخاذلون عن نصرة الأفكار التي كانوا يدعون لها. والسبب في ذلك في تقدير "خلف" يعود إلى أنهم تأثروا كثيرا بنظام الخمسينيات والستينيات وما جرى فيه من ترسيخ لأفكار وأيديولوجيات غربية وشرقية نشأت في ظل ثقافة ونتاج تطورات تاريخية معينة في تلك البيئات ولا تمت للواقع ولا الفكر ولا المزاج المصري العربي الإسلامي بصلة، وفرضتها الدولة حينئذ بالقوة القاهرة والقوة الناعمة، وكان للتنظيم الطليعي وسائر أجهزة الاتحاد الاشتراكي دور مهم في بناء نخبة جديدة تتشدق بقيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، لكنها لا تتجرأ على انتقاد الدولة البوليسية والقمع الذي كان موجها أغلبه ضد الإسلاميين. ورصد "خلف" أنه وبسبب قمع مبارك حصل تقارب بين هذه النخبة والإسلاميين في مسائل الحقوق والحريات وصل ذروته في ثورة 25 يناير، لكنهم فوجئوا في الاستحقاقات الانتخابية المتتالية منذ الثورة بداية باستفتاء مارس وانتهاء بدستور 2012 مرورا بانتخابات الشعب والشورى والرئاسة أنهم غير قادرين على حصد ثقة الناخبين التي توجهت للإسلاميين، وبدت الأمور تتجه إلى التكرار في الانتخابات التشريعية التي كان مزمعا إجراؤها عقب انتهاء المحكمة الدستورية من الموافقة على قانوني الانتخابات ومباشرة الحقوق السياسية، فطوعت لهم أنفسهم بعد إغواء العسكر لهم أن لا أمل في الوصول إلى السلطة إلا بالتحالف مع العسكر والوصول إلى السلطة بغير الطرق والآليات الديمقراطية وقواعد التداول السلمي للسلطة. وأكد "خلف" أن هذه في الحقيقة ورطة كبيرة؛ لأنهم حين قبلوا بمبدأ تدخل العسكر في الحياة السياسية واكتشفوا أنهم لا يملكون مسوغ الاعتراض على الجرائم التي ترتكب بحق المواطنين من قبل القوات الأمنية وقياداتهم؛ لأنهم رضوا بتدخلهم بل شجعوهم على هذا التدخل، فتوالت التنازلات عن حقوق المواطنين والعمال والطلبة وحرياتهم، ولم ينتفضوا كما كانوا من قبل ينتفضون ضد أدنى تجاوز.