لعقود خلت، انكب العديد من الباحثين على إجراء دراسات معمقة حول العلاقة بين المال والسعادة، ومدى التفاعل فيما بينهما. واتفق العلماء على أن ثمة علاقة إيجابية تربط بين مستوى دخل الإنسان وسعادته، غير أنها وعلى غير ما يتوقعه الكثيرون علاقة ضعيفة. فقد أظهرت نتائج العديد من الأبحاث، أن الأشخاص ذوي الدخل المرتفع يكونون أكثر قناعة في حياتهم عندما يتوقفون عن التفكير في المال. لكنهم، شيئا فشيئا، يكتشفون أنهم ليسوا أكثر سعادة من الآخرين، حتى وإن استمروا في الإنفاق هؤلاء، لا ينفقون أموالهم دائما على أمور تساعدهم على الشعور بالسعادة، لأنهم في معظم الأحيان يجهلون حقا الأسباب التي تمنحهم السعادة. هذه هي باختصار، النتيجة التي توصلت إليها دراسة أجراها ثلاثة باحثين في مجال المال والسعادة، وهم إليزابيث دون من جامعة كولومبيا البريطانية، ودانيال جيلبرت من جامعة هارفرد، وتيموثي ويلسون من جامعة فرجينيا. لقد خلصت الدراسة التي أجراها هؤلاء الباحثون وصدرت أخيرا في جورنال أوف كونسيومر سايكولوجي المتخصصة في دراسة طبائع المستهلكين، إلى وجود مجموعة من القواعد تحكم عملية الإنفاق، وذلك عبر تطبيق بعض مبادئ الدراسات العلمية التي صممت لتساعد الناس على التمتع بسعادة أكبر. ومن خلال اختيار أهم هذه المبادئ وأكثرها صلة بهذا الموضوع، وأيضا من خلال النظر في البيانات وإجراء المقارنة فيما بينها، يمكننا استخلاص بعض الحكم أو القواعد حول عادات الشراء والإنفاق في المنطقة العربية بشكل عام، مقارنة بمناطق أخرى حول العالم، واختصارها في هذه القواعد الخمس: القاعدة الأولى: اشتر التجربة، لا الأمور المادية تفيد الدراسة بأن إنفاق المال من أجل خوض تجربة جديدة، يمنح المرء سعادة أكبر من تلك التي يمنحه إياها شراء ممتلكات مادية أو أغراض ملموسة. فهذه التجارب تكون دائما أكثر تنوعا وإثارة، كما أنها تأخذ وقتا أطول في القيام بها، لتبقى مدة أطول في الذاكرة، وتمنح بالتالي من يخوضها سعادة أكبر من تلك التي يحصل عليها من امتلاك الأمور المادية التي سرعان ما تتحول إلى جزء من الأثاث. وكذلك، كلما كانت تجربتك فريدة من نوعها، كان من الصعب مقارنتها بتجارب أخرى، فتتجنب بذلك الإحساس بالندم، أو على الأقل، تقلل من حدته، كأن تتمنى مثلا لو أنك أمضيت إجازتك في سنغافورة بدلا عن ريو دي جينيرو. وما يميز التجارب، أنها غالبا ما تكون مشتركة مع مصدر سعادتنا الأول: الأشخاص الآخرون. في بعض حالات الإنفاق، كشراء السيارات مثلا، يختلط الأمر علينا عند إجراء عملية التتصنيف، إذ يمكن اعتبار الشراء هنا إنفاقا على أمور مادية، أو إنفاقا على واحدة من التجارب المثيرة. فعلى سبيل المثال، إن أنت اقتنيت سيارة رباعية الدفع لأنك تهوى القيادة على الطرقات الوعرة أو تعشق التخييم مع عائلتك في عمق الصحراء، عندها يمكن اعتبار ذلك تجربة فريدة. أما أن تقوم مثلا بشراء سيارة دسنبيرج لمجرد إضافتها إلى مجموعتك من السيارات النادرة، ويكون الهدف من ذلك عرضها فقط، حيث تبقيها نظيفة ولامعة من دون أن تستمتع بقيادتها، فعندها تعد عملية الشراء إنفاقا على أمور مادية. ثمة مقياس تقريبي نستطيع من خلاله قياس ميول الأفراد إلى خوض تجارب جديدة، يتمثل في كيفية قضائهم لعطلاتهم. وفي هذا الإطار، أجرت رويترز/ إيبسوس استطلاعا شمل 24 دولة، لقياس إمكانية قضاء العمال لكل أيام العطلات المخصصة لهم، حيث أظهر هذا الاستطلاع أن %89 من عمال فرنسا يستفيدون، وبشكل تام، من كل أيام الإجازات المتاحة لهم، فيما جاءت بريطانيا في المرتبة الرابعة بمعدل %77، والمملكة العربية السعودية في المرتبة السادسة بمعدل %76. أما الولاياتالمتحدةالأمريكية، فجاءت في المرتبة العشرين بمعدل %57، إذ إن معظم الأمريكيين يحصلون على إجازة مدتها أسبوعان فقط، وهذا يعني أن ما عليهم القيام به، هو أن يكونوا أكثر استرخاء واستمتاعا بالحياة مما هم عليه اليوم. وقد تم تصنيف اليابان في المرتبة الأخيرة، بعدما قال %33 فقط من العمال إنهم يستفيدون من كل أيام الإجازة المخصصة لهم. القاعدة الثانية: انفق على الآخرين يشير العلماء إلى أبناء البشر بأنهم أكثر المخلوقات اجتماعية على سطح هذا الكوكب. ومن هذا المنطلق، ليس غريبا أن تكون الأمور التي تجعلنا أكثر سعادة هي تلك التي تسهم في تقوية روابطنا الاجتماعية، وإنفاق المال هو أحد هذه الأمور. أما المشاعر الجيدة التي تتولد عن هذه التجربة، فقد تم قياسها عن طريق التصوير بالرنين المغناطيسي للدماغ. غالبا ما تكون هذه الشحنة من المشاعر الإيجابية مجهولة بالنسبة إلى الكثيرين، على الأقل حتى تصبح حقيقة واقعة. فعندما نعطي، تغمرنا العواطف الدافئة. لكننا، وحسب الدراسات، عندما يتعلق الأمر بتوقعاتنا في شأن مصدر السعادة، نجد أنفسنا أكثر ميلا نحو تبني فكرة أن إنفاق المال على أنفسنا، هو الطريق الأنسب لبلوغ السعادة. ربما هذا هو الشكل الوحيد من الإنفاق الذي يعتبر معه الأمريكيون، قدوة حسنة. إلا أنه من الصعب جدا إجراء مقارنة عندما يتعلق الأمر بالأعمال الخيرية أو المساعدات الإنسانية، سواء المادية منها أو المعنوية، حتى لو توافرت الأرقام والبيانات اللازمة لذلك، إذ إن الأمر يعتمد على ماذا تقيس، وكيف تنظر إليه. ووفقا لما جاء في تقرير مبادرات التنمية 2011 حول المساعدات الإنسانية العالمية، فإن المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت وقطر، احتلت خلال السنوات الأخيرة مراتب متقدمة في قائمة أكبر الدول المانحة للمساعدات الإنسانية للدول الفقيرة والنامية، سواء كانت تلك المساعدات عن طريق الأممالمتحدة، أو عبر منظمات وهيئات غير حكومية. وفي العام 2008، وفي ذروة الركود الاقتصادي العالمي، خصصت الولاياتالمتحدة %2,2 من ناتجها القومي للأعمال الخيرية، وذلك وفقا لالمؤسسة الأمريكية للأعمال الخيرية، وقد شكلت التبرعات الشخصية التبرعات القادمة من المؤسسات أو الشركات أو الجمعيات الخيرية، ما نسبته %75 من إجمالي تلك التبرعات، أي ما يعادل 229 مليار دولار. وأظهرت دراسة قامت بها مؤسسة المساعدات الخيرية، ومقرها لندن، أنه إذا ما حسبنا قيمة المساعدات كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، تكون مساعدات الأمريكيين أكثر بمرتين من تلك التي يقدمها الكنديون والبريطانيون الذين يأتون بعد الأمريكيين مباشرة في قائمة الأكثر عطاء على المستوى العالمي. وتعود أسباب هذا الكرم الأمريكي إلى سببين: - أولا: إلى طبيعة شبكة الأمان الاجتماعية المترسخة في كل فئات المجتمع، حيث تسعى الجمعيات الخيرية إلى الوصول إلى مناطق أهملتها الحكومة، من أجل مساعدة السكان فيها. - ثانيا: فهو تدين الأمريكيين، إذ تعد الجمعيات الدينية، وخصوصا تلك التي تمثل الكنائس المحلية، من أكثر الجمعيات نشاطا في هذا المجال، حيث تستحوذ على ثلث الحجم الكلي للمساعدات. ونظرا إلى أن الإنفاق في سبيل الآخرين يعزز الشعور بالسعادة من خلال تقويته الروابط الاجتماعية، فإنه يمكننا القول إن الإنفاق في منطقة الشرق الأوسط، والذي حافظ على زخمه على الرغم من التباطؤ الاقتصادي العالمي، يعبر في العديد من أوجهه عن مكونات إجتماعية قوية ومترابطة. على سبيل المثال، ظل الطلب على التكنولوجيا والسلع الإلكترونية مرتفعا وفقا لشركة الأبحاث يورو مونيتر إنترناشيونال، علما أن %85 من مستخدمي الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط يعتبرون أن التكنولوجيا تساعدهم على خلق جو تواصلي أفضل مع العائلة والأصدقاء، فيما يرى %77 منهم أنها تجمع بين الأصدقاء وأفراد العائلة الواحدة، وفقا لما جاء في دراسة أجرتها جمعية السلع الإلكترونية. القاعدة الثالثة: اشتر العديد من الأشياء الصغيرة الممتعة، عوضا عن القليل من الأغراض الكبيرة قد يكون من الحكمة أن تسعى وراء رغبات بسيطة تحقق لك متعة متجددة، احتساء القهوة مثلا، قد يوفر متعة أكبر من شراء سيارات لامبورجيني. فقد أظهرت دراسة بلجيكية أن الأشخاص الذين لديهم قدرة عالية على التمتع بالملذات البسيطة التي اعتادوا القيام بها في حياتهم اليومية، هم أكثر سعادة من غيرهم. وعلى العكس، فإن الأشخاص ميسوري الحال، هم الذين يعانون تراجع قدرتهم على التمتع بمثل هذه الأمور. ثمة فرضية تقول إن سهولة تحقيق المتعة في أي تجربة، تجعلنا نخطئ في تقييمنا للأمور الأقل قيمة. إذا أخذنا على سبيل المثال إنفاق الفرد على الشكولاتة كمعيار لقياس مدى تمتعه بالملذات البسيطة والأقل تكلفة، نجد أن المملكة المتحدة تحتل الصدارة. فحسب يورو مونيتر إنترناشيونال، ينفق البريطانيون، وهم المعروفون بعدم التبذير، على الشكولاتة، ضعف ما ينفقه الأمريكيون، وثلاثة أضعاف ما ينفقه سكان الإمارات العربية المتحدة التي تعتبر أكثر بلد خليجي استهلاكا للشكولاتة. القاعدة الرابعة: لا ترفع سقف ديونك يمكن للفرد أن يتأقلم مع الأوضاع السيئة، تماما كما يتأقلم مع الأوضاع الجيدة، إلا أن الكثيرين منا يسيئون تقدير هذه المرونة العالية التي نتمتع بها في التكيف مع الظروف المختلفة. وتقوم قطاعات الأعمال باستغلال هذه الميزة والاستفادة منها، عبر تمديد فترات الضمان بأسعار مرتفعة، والتي دائما ما تكون صفقات مربحة للبائع، ورهانات سيئة جدا بالنسبة إلى المشتري. وعادة ما يدفع المستهلكون سعرا أعلى من السعر العادل لقاء هذه الضمانات، لخوفهم من أن أي خسارة مستقبلية محتملة، قد تكون مؤلمة. فهم مثلا يخشون أن تؤدي خسارتهم لمبلغ 5 دولارات مستقبلا، إلى ألم يتجاوز في حدته درجة الفرح الناجم عن ربحهم لمبلغ مماثل، وبالتالي تكون الخسارة بالنسبة إليهم أشد وطأة من الربح. إلا أن الباحثين لا يؤيدون مثل هذا التوجه في التفكير، إذ يعتبرون أنه عند وقوع الخسارة، يلجأ الأشخاص بشكل تلقائي إلى البحث عن مخارج لها، فيتجنبون بذلك الشعور بالندم، ولا يعودون يلقون كثيرا باللوم على أنفسهم. يفضل المتسوقون التبضع من محال معروفة، حتى لو كانت أسعارها أعلى من غيرها، لأنهم يكونون واثقين من قدرتهم على إرجاع أو استبدال السلع في حال اكتشقوا أنها لا تتناسب مع احتياجاتهم. إلا أن مثل هذا الأمر من شأنه أن يقلل من درجة السعادة التي يحصلون عليها، وهنا مثال توضيحي: طلب في إحدى الدراسات من مجموعة من الأفراد أن يختار الواحد منهم لوحة لنفسه من بين مجموعة من اللوحات الفنية المشهورة. ثم أتيحت لنصف هؤلاء إمكانية استبدال لوحاتهم في حال رغبوا في ذلك، في حين أبلغ النصف الآخر بأن الخيارات التي قاموا بها، نهائية. وكانت النتيجة أن الذين التزموا بخيار واحد، ظلوا مشدودين إلى لوحاتهم وينظرون إليها بتقدير كبير، معربين عن رضاهم التام عن حسن الخيارات التي اتخذوها، في حين أن أولئك الآخرين اعتبروا أن اللوحات التي قاموا بانتقائها، كانت تبدو أكثر جاذبية بالنسبة إليهم قبل أن تتاح لهم فرصة استبدالها. تفيد بيانات أصدرتها شركة ماركت ببليشرز البريطانية المتخصصة في دراسات السوق، بأن سكان المملكة المتحدة أنفقوا في العام 2009، 1.85 مليار دولار على شراء الضمانات ذات الآجال الممددة للأجهزة الكهربائية المنزلية، والتي تشمل أجهزة التفاز والأجهزة السمعية البصرية وأجهزة الكمبيوتر وملحقاتها، والأدوات الكهربائية الرئيسة. وهذا الرقم يعادل %6 من إجمالي مبيعات هذا القطاع. القاعدة الخامسة: ادفع الآن، واستهلك لاحقا هذه القاعدة تظهر أن أبناء الشرق الأوسط، أكثر حكمة وانضباطا في الإنفاق من أبناء الدول الغربية، إذ لا يبالغون في استخدامهم للبطاقات الائتمانية. ففي مصر على سبيل المثال، يتراوح عدد حاملي بطاقات الائتمان بين 3 و4 ملايين شخص من أصل 79 مليونا تقريبا هو إجمالي عدد السكان، وذلك وفق إحصاءات ماستر كارد العالمية. وإضافة إلى مسألة تراكم الديون التي تتسبب بها لدرجة لا يمكن تحملها أحيانا، فإن ثقافة البطاقات الائتمانية التي تعد وسيلة إشباع فورية لرغباتنا، تكشف عن عيب آخر، يتمثل في الحد من التوقعات ومتعة الترقب والانتظار. فقد أظهر أحد الأبحاث أن ترقب حدث ما، كعطلة مثلا، غالبا ما يكون مصدرا للسعادة المجانية. وفي الحقيقة، فإن انتظار وقوع حدث ما، يجلب معه السعادة أكثر من الحدث نفسه. من خلال قراءة البيانات الأخيرة الصادرة عن يورو مونيتر إنترناشيونال حول القروض الاستهلاكية، يمكننا أن نحسب المجموع الكلي لهذه القروض بما في ذلك بطاقات الائتمان، الرهن العقاري، القروض السكنية، وقروض الأسهم والسيارات والسلع المعمرة والتعليم، والقروض الشخصية. ولن يكون مفاجئا القول إن الولاياتالمتحدة تتربع على عرش القروض الاستهلاكية في العالم، مسجلة ما معدله 11,613 دولارا للفرد الواحد. إذا أجرينا مقارنة بينها وبين الولاياتالمتحدة، تبدو معظم الدول العربية في وضع جيد ومريح، على الرغم من أن بعضها، خصوصا في منطقة الخليج، راكمت في السنوات القليلة الماضية ديونا كبيرة، وبوتيرة متسارعة. فالقروض الاستهلاكية في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، زادت إلى أكثر من الضعف خلال الفترة من 2004 وحتى 2009، إذ ارتفعت من 31.6 إلى 65.7 مليار دولار. وكذلك، تحتل دولة الإمارات العربية المتحدة المركز الأول من حيث حصة الفرد من إجمالي القروض الشخصية، وذلك بمعدل 3,621 دولارا، في حين تأتي السعودية في المرتبة الثانية بمعدل 2,422 دولارا للفرد. ومع ذلك، تبقى الفروقات كبيرة بين الدول، على مستوى المنطقة العربية ككل. ففي مصر مثلا، لا تتجاوز حصة الفرد من إجمالي القروض الشخصية ما معدله 16 دولارا فقط.