الأنظمة القمعية تكره كلمة الحق، وتعمد إلى كبتها بكافة الوسائل، وتنتهج في سبيلها إلى ذلك فزاعات لإغلاق أفواه المظلومين والهيمنة على صناعة القرار. وتبدو عبارة "لا تعليق على أحكام القضاء" ضمن تلك الفزاعات التي انتشرت بشدة منذ الفترات الأخيرة من عصر المخلوع، وتقترن دائما بنوع من التهديد، وكأن القضاء ليس قانونا من صنع البشر يحتمل الخطأ والصواب. ولما كانت تلك القضية مثار جدل واختلاف بين فقهاء القانون فقد ارتأت التغيير عرض العديد من الآراء المتعلقة بمدى قانونية التعليق على أحكام القضاء، على أن يكون الحكم الأخير للقارئ. لا صحة له يرى الدكتور جمال جبريل عضو مجلس الشورى وأستاذ القانون الدستوري أنه لا يوجد نص دستوري أو قانوني بعدم التعليق على أحكام القضاء، وتحدى الدكتور محمود كبيش عميد حقوق القاهرة في أحد اللقاءات التلفزيونية من أن يأتي بنص قانوني واحد ينص صراحة على تجريم التعليق على أحكام القضاء. لا يخدم الحقيقة وعلى الجانب الآخر يرى المستشار زكريا عبد العزيز، رئيس نادي القضاة الأسبق، أن القرارات الصادرة من قبل المؤسسات القضائية لا يجب التعليق عليها من قبل العامة بأي شكل من الأشكال، معتبرا أن السماح بالتعليقات ربما يؤثر سلبا على أداء القضاة، ويجعل للرأي العام توجها معينا، قد لا يخدم الحقيقة، بل زاد بقوله إن الرئيس المخلوع قد يستغل تعليقات مسؤولين على قرارات قضائية بشأنه للجوء إلى محكمة دولية، الأمر الذي قد يحدث نتائج وخيمة. ليس جريمة لكن تصريحات عبد العزيز لاقت اعتراضا من مسؤولين قانونيين في حزب الحرية والعدالة إذ صرح مختار العشري، رئيس اللجنة القانونية بالحزب في تصريحات لفضائية المحور: " إن التعليق على أحكام القضاء ليس جريمة، فالمحامين يقومون بنقض الأحكام أمام محكمة النقض، وهذا لا شيء فيه"، مشيرا إلى أن القاضي قد يصيب وقد يخطئ، ولذلك هناك عدة درجات للمحاكم، منوها إلى أن الأحكام تصدر طبقا لما هو موجود في البراءة، والمسئول عن البراءة هي النيابة العامة وأدواتها من البحث الجنائي، والقاضي لا يحكم إلا بما هو في الأوراق، مؤكدا أن المدان هو من يضع القضية دون أدلة تثبت إدانة من وضعها أمام القاضي. وفي ذات الاتجاه ذكرت دراسات قانونية أن شرط التعليق على أحكام القضاء هو الإلمام بالنصوص القانونية التي تحكم النزاع، و أيضا بالفقه قديمه و حديثه الذي تعرّض للمسألة. القانون يتكلم الفارق شاسع بين التعليق على أحكام القضاة والتطاول عليهم حيث نصت المادة 133 من قانون العقوبات على أن " من أهان بالإشارة أو القول أو التهديد موظفاً عمومياً أو أحد رجال الضبط أو أي إنسان مكلف بخدمة عمومية أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه . فإذا وقعت الإهانة على محكمة قضائية أو إدارية أو مجلس أو أحد أعضائها وكان ذلك أثناء انعقاد الجلسة تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنة أو غرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه " كما نصت المادة 184 من ذات القانون على انه " ويعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنية أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أهان أو سب بإحدى الطرق المتقدم ذكرها مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو غيره من الهيئات النظمية أو الجيش أو المحاكم أو السلطات أو المصالح العامة . " وكذلك المادة 186 نصت على " يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أخل بطريقة من الطرق المتقدم ذكرها بمقام قاض أو هيبته أو سلطته في صدد دعوى . " والمادة الحاسمة في هذه الموضوع فكانت المادة 187 ، والتي نصت على : " يعاقب بنفس العقوبات كل من نشر بإحدى الطرق المتقدم ذكرها أموراً في شأنها التأثير في القضاة الذين يناط بهم الفصل في دعوى مطروحة أمام أية جهة من جهات القضاء في البلاد أو في رجال القضاء أو النيابة أو غيرهم من الموظفين المكلفين بتحقيق أو التأثير في الشهود الذين قد يطلبون لأداء الشهادة في تلك الدعوى أو في ذلك التحقيق أو أموراً من شأنها منع شخص من الإفضاء بمعلومات لأولي الأمر أو التأثير في الرأي العام لمصلحة طرف في الدعوى أو التحقيق أو ضده ." مجلس القضاء الأعلى حدد بيان أصدره مجلس القضاء الأعلى عام 2007 أطرا شديدة التعقيد فيما يخص التعليق على أحكام القضاء، فقال: " إن التعرض لها لا يتم إلا بوسيلتين إحداهما الطعن علي الحكم وتعييبه أمام محكمة الطعن. وفقاً للطرق والضوابط المقررة قانوناً. أما الثانية : فهي التعليق العلمي علي الأحكام. وهي وسيلة مشروطة بضوابط عديدة أهمها : أن يكون التعليق من متخصص. وأن يتناول حكماً استنفدت طرق الطعن عليه. تفادياً لمظنة التأثير علي قضاء الطعن. وألا يناقش التعليق إلا المباديء التي شيد عليها الحكم بناءه دون أدنى تعرض للهيئة التي أصدرته أو التفتيش في خبايا النوايا أو مكنون الضمائر. وأن يتم التعليق من خلال مطبوعة قانونية متخصصة. وبغير هاتين الوسيلتين يحظر التعليق على أحكام القضاء. ويضحي التعليق جريمة ويُوقع صاحبه تحت طائلة العقاب". حظر النشر كفل القانون للقضاء إصدار أوامر حظر نشر في قضايا رأي عام، قد تتدخل الأهواء للتأثير على مجراها، ولكن تبقى مخاوف من أن يتم استغلالها لأغراض سياسية تمويهية معينة، أو للتعتيم على بعض الأمور، لا سيما وأن القاضي في نهاية الأمر بشر يتأثر بالأهواء. وما بين اختلافات القانونيين تتوه الحقيقة في تلك القضية، ولكن تبقى حقيقة ثابتة وهي أن أنظمة قمعية تستغلها أبشع استغلال.