أبقت الولاياتالمتحدة عينيها مفتوحتين على الثورات الدائرة في دول الربيع العربي خشية انهيار الأنظمة الحاكمة التابعة لها ، وخاصة في مصر لمكانتها ، ومانعة أي دولة منافسة لها ، وخاصة بريطانيا ومن معها من دول أوروبا ، من التسلل ومد نفوذها إليها. ومن ضمن الوسائل والأساليب التي تعتمدها أمريكا لتحقيق ذلك استغلال فكرة "الصداقة الأميركية" القائمة على مد الشعوب الفقيرة بالمعونات الأميركية واستعمال القمح وتقديم القروض والمنح المالية والمساعدات الإنسانية عن طريق المؤسسات التابعة للأمم المتحدة المليئة بالجواسيس. إن أسلوب المعونات الأميركية هذا قد استمر بعد الثورات ، فقد أعلنت الولاياتالمتحدة عن استئناف تقديم مساعدات لمصر تبلغ 1.3 مليار دولار ، وزيادة في المساعدات الإنسانية لليمن لتبلغ 55 مليون دولار، ومساعدات لتونس لقضاء ديونها التي تبلغ 100 مليون دولار ، وهنا يطرح أكثر من سؤال حول هذه المساعدات وحقيقتها وأهدافها : هل هو الكرم الأمريكي الحاتمي ؟ أم هو الدافع الإنساني طمعاً في إغاثة الملهوف وأملاً في نشر الخير والمعروف ؟ أم هي لوجه الله ؟ ... أم هي مساعدات شيطانية تقوم على اللف والدوران الرخيص والتضليل الحقير وشراء الذمم من أجل السيطرة ومد النفوذ ورهن توجهات البلاد السياسية ومقدراتها الاقتصادية. إن المساعدات الأميركية هذه هي إحدى أدوات الأمن القومي للولايات المتحدة ، وهي مساعدات سياسية وليست إنسانية ؛ لذلك هي تتعلق بالمساءلة الدستورية التي يحاسب الكونغرس رئيس البلاد عليها. إن تاريخ المعونات الأميركية يعود إلى زمن الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان الذي أقر برنامج للمعونات تحت مسمى : مساعدة تقنية للدول النامية وقد أُظهرت على أنها تعبير عن سلوك إنساني ونوايا طيبة لمجتمع ديمقراطي تجاه المجتمعات الأقل حظاً والتي تتسم بالتخلف التقني وغياب القيم الاجتماعية المتناسقة مع التقدم والرخاء. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشعب الأمريكي يعارض في معظمه هذه المعونات ويطالب بتخفيضها ، وهذا يوضح أن الرأي العام الأمريكي ليس هو الذي يقرر سياسات المعونة الخارجية ، وكذلك فإن المعونات الأمريكية تستمر حتى في أوقات الأزمات وقصور الإنفاق العام الداخلي لأنها تخدم مصالح أميركية متعددة لا يعلمها إلا السياسيون ، فقد قال عضو الكونجرس كلارنس لونج إن مؤيدي المعونة يمثلون دوافع اقتصادية وسياسية متنوعة تشكل أهدافاً مختلفة مثل شراء أصوات في الأممالمتحدة أو مواقف تخدم مصالحها أو إقامة قواعد عسكرية عبر البحار. فالرؤساء الأمريكيون يعترفون بصراحة بأهمية المعونات الخارجية كأداة لتعزيز مصالح أميركا الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الخارج ، فمرسوم الكونجرس لسنة 1950م الخاص بالتنمية الدولية يبيح فتح الأسواق المحلية في الدول على مصراعيها للبضائع الأميركية عموماً ، وفي ظروف الهيمنة السياسية الأمريكية تتمتع الشركات الأميركية بمساندة حكومتها لأنشطتها التجارية الخارجية ؛ وبذلك تعترف وكالة التنمية الدولية USAID وكذلك الخارجية الأميركية للكونجرس وللشعب الأمريكي أن المساعدات الأمريكية ليست هبة وإنما مصالح. ويصف وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جورج شولتز برنامج المعونات الأميركية في مقدمة تقريرٍ خاص صدر عن الخارجية الأميركية عام 1983م على أنه "أداة أساسية من أدوات سياسة أمريكا الخارجية ، وأنه يرتبط ارتباطاً مباشراً بأمن أمريكا القومي وازدهارها الاقتصادي". ويذكر الرئيس الأسبق رونالد ريغان في رسالته السنوية أمام الكونغرس الأميركي عام 1986م في هذا السياق : "إن كل دولار ينفق على المساعدات الأمنية يساهم في الأمن العالمي بالمساهمة نفسها لذلك الدولار في بناء قوة الدفاع الأميركية". وتقرر هذه المساعدات وتمرر بالإضافة إلى المؤسسات الأمريكية من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين تسيطر الولاياتالمتحدة عليهما ، سواء من خلال رأس المال المقدم أومن خلال عملية اتخاذ القرارات عن طريق قوتها التصويتية وسيطرة موظفيها ، وهذا شكل من أشكال الوصاية الأمريكية الدولية على العالم بحيث تتحقق في النهاية أهدف الأمن القومي الأمريكي. وقد كرست السياسة الخارجية الأميركية جهودها على استخدام الدولار استخداماً سياسياً في المعونات الخارجية، وهو ما أطلق عليه الاقتصادي الأمريكي سيتوارت سميث "الدولار السياسي" ، حيث وجه انتقادات قاسية لسياسة المساعدات الاقتصادية الأميركية بوصفها لوناً من ألوان السيطرة الجديدة لخدمة الأهداف الأميركية دون مراعاة المصالح الوطنية للدول المتلقية للمساعدات فالدولار الأمريكي لم يتخلَّ عن جنسيته السياسية من خلال المساعدات الأمريكية إلى الخارج. ومنذ بروز الدور العالمي للولايات المتحدةالأمريكية كقوة كبرى بعد الحرب العالمية الثانية كان هناك ترابط وثيق بين المساعدات الاقتصادية والمساعدات العسكرية ، فنادراً ما كانت هناك مساعدات اقتصادية دون أن ترتبط بمساعدات عسكرية. هذه الأساليب التي تستخدمها أمريكا في سياساتها الاستعمارية ظهرت واضحة كل الوضوح بعد توقيع الاتفاقيات مع كيان يهود في فلسطين ، وكان منهج معاهدات السلام أن يؤثر على كل وجوه الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي ، أي سياسة التطبيع مع العدو الصهيوني والمحافظة على اتفاقيات السلام أو التبعية الاقتصادية. ففي مصر كمثال لمكانتها وتأثيرها في المنطقة حيث تعد اليوم من بين الدول الأولى في العالم المتلقية للمعونات الأمريكية ولا يفوقها في ذلك إلا كيان يهود ، ففي العشر سنوات الماضية وصل مصر 15 بليون دولار ما بين منح وقروض أمريكية بالإضافة إلى مساهمات ألمانياالغربية واليابان والبنك الدولي المهيمَن عليه من قبل أمريكا حيث تم تحويل مصر إلى قاعدة أمريكية. هذا وقد بدأت مصر في الحصول على المعونات الأمريكية في زمن عبد الناصر ثم ازدادت كثيراً بعد معاهدة السلام والتي تم توقيعها بين مصر و(إسرائيل) برعاية أمريكية ، وكان ذلك في عام 1979م ، ومنذ ذلك التاريخ اقترح الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جيمي كارتر بأن تقوم أمريكا بدفع معونة لكل من دول الصراع في منطقة الشرق الأوسط (مصر و(إسرائيل) والأردن وسوريا ولبنان) ومنذ ذلك التاريخ تمت الموافقة على ترتيب معونة ل (إسرائيل) تبلغ (2.3مليار دولار) سنوياً ومعونة لمصر تبلغ (2.1مليار دولار) سنوياً وهي عبارة عن (1.1مليار دولار) معونة عسكرية و(مليار دولار) معونة اقتصادية كما أعلن ، ومنذ ذلك التاريخ تقوم أمريكا بسداد هذه المعونة في شكل سلع وخدمات وليست معونة (نقدية) كما تحصل عليها (إسرائيل) ، وتعطى هذه المعونة في صورة (أسلحه ومعدات) و(نقل أسلحة) على متن شركات أمريكية وخبراء تدريب أمريكيين ومكافآت للمستشارين العسكريين الأمريكيين ، فقد تم تدريب أكثر من 25 ألف عسكري مصري بمختلف الرتب في أمريكا بالإضافة إلى قطع غيار الأسلحة والطائرات الحربية ، وكل هذا يستهلك المعونة لصالح أمريكا حتى إن (66%) من قيمة المعونة يعود مرة أخرى لجيوب أمريكا. وتصر الولاياتالمتحدة على استمرار تقديم الدعم للجيش المصري لاستمرار نفوذها فيه بالرغم من الأزمة الاقتصادية الأمريكية ، فالحفاظ على النفوذ الأمريكي القوي في الجيش المصري يعتبر من أهم الإنجازات الأمريكية في الشرق الأوسط منذ خمسينات القرن الماضي ، وقد فسّرت مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية بتاريخ 17 - 2 - 2012 ذلك الإصرار بنقلها عن مصادر دبلوماسية غربية وعسكرية مصرية ما نصه : "ومن الأسرار المكشوفة تقريباً أن الضباط يتلقون زيادات في الرواتب منذ بدء الاحتجاجات ، ولكن يمكن أن تكون المكافآت التي يعطيها المجلس العسكري الأعلى حتى أكبر مما كان يُعتقد في السابق" ، وقال دبلوماسي غربي آخر إنه شاهد أدلة على دفعات منتظمة تصل إلى 11600 دولار لضابط برتبة عقيد فما فوق". وقالت المصادر : "إن طبقة الضباط هي التي يهتم المجلس العسكري الأعلى بإرضائها" ، وأضافت : "كثيرون من أولئك الضباط وبينهم الكثير دُرِّبوا في الولاياتالمتحدة عادوا إلى مصر لإدارة شؤون البلاد" وقد أثرت تلك الأموال الأمريكية على علاقات ضباط الجيش بالمجلس العسكري فقالت المجلة : "إن المجلس العسكري الأعلى في مصر يشعر بقلق عميق من الاحتكاك المتزايد بينه وبين ضباط الطبقة المتوسطة ، ونتيجة لذلك فإن المجلس متمنع بصورة متزايدة عن عمل أي شيء يمكن أن يمثل مخاطرة بتدهور العلاقة بينه وبين ضباط الجيش إلى حد أكبر" ، وأضافت : "إن المجلس العسكري الأعلى سرَّع عشرات حالات الترقية لضباط شباب في محاولة لكسب ولائهم". ويصر المجلس العسكري في كل من مصر وأمريكا على إبقاء هذه المساعدات ، فقد عمد المجلس العسكري السابق في مصر إلى الإبقاء على الدولة محتاجة إليها ، فقد أشارت ندوة المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى أن الفجوة التي لم تتمكن الحكومة من تدبيرها في عجز الميزانية تصل لنحو10 مليارات دولار لا مفر من تغطيتها إلا بالاقتراض والحوار مع صندوق النقد الدولي لاقتراض3.2 مليار دولار. الحفاظ على هذا النفوذ الأمريكي الكبير هو الذي يبرر استمرار المعونات الأمريكية لمصر بالرغم من ارتفاع الأصوات في الكونغرس لقطعها ؛ ولذلك حذّر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارتن ديمبسي من أن : "قطع المعونة الأمريكية عن مصر سيعزل الولاياتالمتحدة عن الجيل المصري القادم ما يعني فقدان التأثير الأمريكي عليه" وقال "إن تصرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بمسؤولية جاء في جزء منه نتيجة أننا شركاء معاً ؛ حيث يأتون إلى مدارسنا ويتبادلون البرامج معنا على مدى 30 عاماً ، إن قطع المعونة وبناء على ذلك عزل أنفسنا عنهم يعني أن الجيل القادم لن تكون لديه هذه الميزة ، ولا أدري إلى أين سيأخذنا ذلك ، وما أقوله لكم هو الحقيقة". ولا بد من التذكير هنا بأن معاهدة كامب ديفيد التي وقعت بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس وزراء كيان اليهود مناحيم بيغن في العام 1979م قد أخرجت مصر بوصفها أكبر قوة عربية من المعركة وحقّقت لأمريكا و(إسرائيل) ما لم تكونا تحلمان به.