ازدادت بشكل كارثي خلال السنوات الماضية وخاصة بعد اندلاع ثورة 25 يناير الهجرة غير الشرعية للشباب المصريين العاطل عن العمل والحالم بمستقبل أفضل ظنا أنه قد يجده في عالم ما وراء البحار في أوروبا فألقى بنفسه في غياهب التهلكة فرغم مشقة هذه الهجرة وآثارها الوخيمة ، سواء الموت غرقا أو السجن .. إلا أن هناك إقبالا كبيرا من الشباب المصري على الفرار من أرض الوطن إلى حيث المجهول ، وهو فرار من واقع بائس ظنه الشباب خلاص طالما ضاقت بلادهم عليهم ولم يجدوا قوت يومهم ، ومن هنا بات مشهد القوارب القديمة المتهالكة المكدسة بأعداد كبيرة من راغبي الهجرة مشهد يتكرر في مصر ، حيث يستقل هؤلاء الشباب بعض هذه المراكب سواء للسفر بها إلى ليبيا ومن هناك إلى أوروبا أو للسفر بها إلى قبرص أو اليونان مباشرة. ويدفع تزايد أعداد الشبان المصريين الغرقى في مياه البحر المتوسط ، خلال محاولات التسلل إلى دول الاتحاد الأوروبي ، هذا الملف إلى البروز على السطح من جديد ، خاصة في ضوء ارتفاع أعداد الضحايا وعجز السلطات المصرية عن الحد من تلك الظاهرة. إحصائيات تقدر الإحصائيات الدولية عدد الشبان المصريين الذين نجحوا في دخول العديد من دول الإتحاد الأوروبي خلال السنوات العشر الماضية بنحو 460 ألف شاب ، من بينهم نحو 90 ألفا يقيمون في إيطاليا بشكل غير رسمي. وقد سجلت إحصائيات الأمن الإيطالية وحدها في الربع الأول من العام الحالي استقبال سواحل كالابريا 14 زورقًا محملة بأكثر من 1500 مهاجر غير شرعي معظمهم من المصريين ، وبلغ إجمالي عدد المهاجرين غير النظاميين الذين دخلوا إيطاليا عام 2007 وحده عن طريق البحر نحو 1419 مهاجراً ، وقد لقي 500 مهاجر مصرعهم في البحر المتوسط ، مقابل 302 مهاجر فقط خلال عام 2006 بأكمله. وتشير الإحصائيات إلى أن هناك حوالي 8 آلاف شاب من إحدى قرى محافظات مصر يقيمون في ميلانو الإيطالية وحدها. وقد شكلت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي مرحلة حاسمة في رسم معالم جديدة للهجرة المصرية إلى الخارج ، حيث تميزت بتسجيل تدفق واسع لأنواع الهجرة من الجنوب ، وهو ما يمكن تقسيمه إلى ثلاث محطات زمنية مترابطة ومتداخلة وهي : مراحل الهجرة غير الشرعية المرحلة الأولى (قبل 1985) : خلال هده المرحلة كانت الدول الأوروبية لا تزال بحاجة ماسة إلى مزيد من العمالة القادمة من الجنوب ، كما أن الدول الأوروبية نفسها كانت متحكمة في حركة تدفق المهاجرين من الجنوب عبر قنوات التجمع العائلي ، وأهم ما ميز هذه المرحلة أن المهاجر الجنوبي تمكن من فهم قواعد اللعبة في دول الشمال وصار يطالب بحق دخول أبنائه المدارس الحكومية وبداية بلورة الخطابات الحقوقية للمهاجر. ومن جهة أخرى كانت هناك هجرة كبيرة إلى دول الخليج النفطية الأمر الذي خفف العبء على الدول الأوروبية بكم كبير من المهاجرين المصريين، وحسب تقديرات البنك الدولي فإن عدد الشباب المصريين الذين هاجروا عام 1975 بلغ353300 مهاجراً، أما في عام 1980 تشير التقديرات أن معدل الهجرة بلغ 803 ألف ليشمل زيادة عدد المهاجرين إلى العراق ، أما مسح الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 1987 فقدر أعداد المهاجرين المصريين بنحو 1.964 مليون فرد. المرحلة الثانية (1985-1995): تميزت هذه المرحلة ببداية ظهور التناقضات المرتبطة بالمهاجرين الشرعيين ومزاحمتهم أبناء البلد الأصليين ، وقد تزامن هذا الفعل مع إغلاق مناجم الفحم في كل من فرنسا وبلجيكا التي كانت تستوعب آنذاك أكبر عدد من المهاجرين الشرعيين. وفي مقابل هذا الوضع الاحترازي تزايدت رغبة أبناء الجنوب في الهجرة تجاه دول الشمال وخاصة في ظل انتهاء مرحلة الرواج النفطي الهائل وبروز مرحلة الانكماش الاقتصادي المتمثل في انخفاض مستويات الدخل القومي في الدول النفطية ، ومن ثم تناقص الطلب على العمالة الأجنبية في دول الخليج ، ولكن ظلت معدلات عرض العمالة على ما هو عليه ، لذا كان من الطبيعي أن تتجه هذه الزيادة إلى الهجرة بالدول الأوروبية بشراسة. ففي 19 يونيو 1995 ومع دخول "اتفاقية شنجن" الموقعة بين كل من فرنسا وألمانيا ولكسمبورج وهولندا حيز التنفيذ تم السماح بموجبها بحرية تنقل الأشخاص المنتمين إلى الفضاء الأوروبي ، لكن مع دخول كل من إسبانيا والبرتغال إلى هذا الفضاء اتخذت قضية الهجرة أبعادا غير متوقعة ، لاسيما بعد لجوء سلطات مدريد إلى فرض مزيد من الإجراءات الاحترازية أمام أي عملية هجرة جديدة ، وذلك في محاولة لمنح مواطنيها مزيدا من الاندماج في الإتحاد الأوروبي. المرحلة الثالثة (1995- إلى الآن) : أخذت هذه المرحلة طابعا أمنيا صارما لجأت من خلاله الدول الأوروبية إلى نهج سياسة أمنية صارمة عبر تنفيذ قرارات "القانون الجديد للهجرة" والذي يستند إلى تبني إجراءات صارمة بخصوص مسألة التجمع العائلي ، وإبرام اتفاقيات مع دول الجنوب حول ترحيل المهاجرين غير الشرعيين. وكرد فعل تجاه هذه السياسة بدأ ما يعرف الآن بالهجرة غير الشرعية وهي الالتحاق بأوروبا بدون وجه قانوني. الدوافع وتكمن دوافع الهجرة غير المنظمة في حزمة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، إضافة إلى تغير في منظومة القيم الثقافية والاجتماعية بشكل سمح بتفشي الظاهرة ، وربما تكون مرشحة للزيادة خلال الفترة القادمة ، وذلك في ضوء ازدياد عوامل الدفع لهجرة هؤلاء الشباب سواء فيما يتعلق بكون هذه العوامل محلية الصنع أو إقليمية وحتى دولية. وتتضافر عدة عوامل تجعل الهجرة غير المنظمة للشباب المصري بمثابة ظاهرة ، ولعل أهمها ارتفاع مستويات الفقر وتدهور الأوضاع الاقتصادية وتفشي ظاهرة البطالة ، والمتمثلة في عدم توافر فرص عمل ، فقد زادت نسبة البطالة خلال الأعوام الماضية، حيث وصلت إلى 10% عام 2002 ، وفي عام 2003 زادت النسبة إلى 10.7% ، وزادت عام 2007 إلى أكثر من 11%. وقد تفاقمت ظاهرة الهجرة غير الشرعية بعد تطبيق قانون المالك والمستأجر حيث كانت الأرض في الماضي تتسع لاستيعاب عمالة كثيفة ، وكانت زراعة الأرض تدر دخلاً وفيراً للفلاح يستطيع سد المتطلبات الأساسية له ولأسرته خاصة ، وكانت الدولة تقدم دعم لقطاع الزراعة وصغار الفلاحين بأشكال مختلفة. وبعد تطبيق قانون المالك والمستأجر وطرد مئات الآلاف من صغار المزارعين والذي أدى لزيادة أعداد العاطليين عن العمل ، وتحويل صغار المزارعين إلى عمال موسميين ، أدى الأمر لتدهور أوضاع أسرهم وساهم في هجرتهم وأبناءهم من القرى إلى المدن والى خارج البلاد. وقد ازدادت هجرة الريفيين أيضا بسبب تآكل الرقعة الزراعية والتوسع العمراني حيث تآكل حوالي مليون ونصف فدان من الأرض الزراعية خلال العقود الثلاثة الماضية، كما أدى ذلك لارتفاع أسعار الأراضي الزراعية والإيجارات والتي وصلت إلى أكثر من عشرين ضعف مما كانت عليه قبل تطبيق قانون تحرير العلاقة الإيجارية، بالإضافة إلى تفاقم مشكلات المياه والري والسماد والتقاوي والتي ساهمت بشكل كبير في هجر الفلاحين وأسرهم لعملية الزراعة. كما يعد من الأسباب الهامة والرئيسية لزيادة الهجرة دافع الغيرة عند الشباب والأسر من التفاوت الطبقي بين الشباب العائد من الهجرة بعد تجربة ناجحة ، وعاد محملاً باليورو وأخذ يشيد أفخم القصور والمنازل ويقتني أحدث وأغلى الموبايلات والسيارات، مما أدى لمزيد من التطلع للسفر حتى لو كانت هناك مخاطرة. يضاف إلى الأسباب السابقة تقصير الشباب أصحاب رحلات الهجرة الناجحة في إقامة مصانع تعود بالنفع على أبناء قراهم والمساهمة في الحد من البطالة والحد من ظاهرة الهجرة. واتجه الشباب العائد من تجربة ناجحة إلى تجارة الأراضي والعقارات والذي وصل بسعر القيراط في بعض القرى إلى 200 ألف جنيه. بالإضافة إلى اقتصار توزيع الأراضي المستصلحة والصحراوية على أصحاب النفوذ في الدولة، واعتماد هذه الأراضي على الميكنة الحديثة أكثر من استخدام الأيدي العاملة، مما ساهم في مزيد من البطالة في الريف. فشل التعليم المهني كما ساهم فشل التعليم المهني في تخريج شباب مدرب على العمل ، وساهم هذا أيضا في اتجاه رجال الأعمال والمستثمرين والقطاع الخاص إلى استيراد عمالة أجنبية مدربة من الخارج رغم زيادة البطالة في مصر خاصة في قطاع النسيج. من جهة أخرى أدت سياسات تحرير الأسواق إلى اعتماد الاقتصاد المصري على بعض السلع المستوردة لرخص سعرها في الأسواق العالمية مثل القطن ، وبالتالي تدهورت أوضاع بعض الزراعات الإستراتيجية والتي كان من خلالها يتم تشغيل عشرات الآلاف من العمال الزراعيين. الخلاصة أن الناس في مصر لا يحبون أن يتركوا أرضهم أو منازلهم فالاستقرار هو الأساس عندهم ولعل ما يدفع شبابنا وعلى الأخص في الريف إلى الهجرة غير الشرعية ، ليس فقط بسبب الفقر المدقع ، وإنما تغيير نمط الحياة حيث توجد طبقات عليا شبابها يقوم بذلك الفعل مستهدفاً تغيير نمط حياته ، وهو ما أطلق عليه الفقر النسبي. ويمكن القول إن استمرار الحكومة في سياسة الاعتماد على القطاع الخاص فقط لتوفير فرص عمل للشباب يؤدي إلى تفاقم كارثة البطالة التي تدفع الشباب إلى الانتحار الجماعي في البحر المتوسط، فقد تم إلغاء تعيين الخريجين منذ عام 1984 سواء الحاصلين على المؤهلات المتوسطة أو خريجي الجامعات الذين يمثلون الشريحة الأكبر من المهاجرين المصريين إلى أوروبا.