تأتي الضربات العنيفة المتبادلة بين إسرائيل والجماعات الإسلامية المسلحة في غزة على مدار الأسابيع القليلة الماضية لتمثل تحولاً خطيراً. فنمط المصادمات غير المنتظمة عقب عملية "الرصاص المصبوب" التي شنتها إسرائيل في 2008-2009 أفسح المجال لتبادل النيران على مدار فترات طويلة تتخللها فترات هدوء قصيرة للغاية. ورغم أن أياً من إسرائيل و «حماس» لا يريد تصعيد الموقف إلى مواجهة كبرى، إلا أن الأمور قد تخرج في النهاية عن نطاق السيطرة مع تصعيد الجماعات الجهادية أنشطتها العنيفة. الظهور القوي للجماعات الجهادية إن المحرك الأساسي وراء هذا التدهور هو نمو الجماعات الجهادية المسلحة في غزة على مدى السنوات القليلة الماضية. وهذه الجماعات، التي يتكون العديد منها من أعضاء «حماس» السابقين، تابعة أيديولوجياً وأحياناً تنظيمياً إلى تنظيم «القاعدة» ولا تشعر بأنها ملزمة بقواعد «حماس» حول وقف إطلاق النار فيما يتعلق بإسرائيل. وبدلاً من ذلك هي تتعاون بصورة وثيقة مع جهاديي سيناء لتخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية ضد إسرائيل. والجماعات الجهادية الرئيسية التي تعمل حالياً في قطاع غزة هي "جيش الاسلام"، "جند أنصار الله"، "التوحيد والجهاد"، و"جماعة أنصار السنة"، وهاتان الأخيرتان هما أيضاً جزءاً من إطار مظلة تدعى "مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس". وقد شارك "جيش الاسلام" بقيادة ممتاز دغمش، في خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006، من بين عمليات أخرى. وتعتقد السلطات المصرية أنه لعب أيضاً دوراً في هجوم آب/أغسطس 2012 الذي خلف 16 جندياً مصرياً قتيلاً على الحدود بين سيناء وإسرائيل. كما أن جماعة "التوحيد والجهاد" مسؤولة عن الهجوم الذي وقع على حدود سيناء في حزيران/يونيو 2012 وأسفر عن مقتل مواطن إسرائيلي وعن اختطاف وقتل الصحفي الايطالي فيتوريو أريغوني في نيسان/أبريل 2011، وغيرها من العمليات. وبينما كثفت هذه الجماعات هجماتها من غزةوسيناء، غيرت إسرائيل تكتيكاتها تدريجياً بقيامها بهجمات جوية وقائية ضد خلايا كانت على وشك القيام بإطلاق صواريخ وكذلك شنها ضربات اعتراضية ضد قادة جهاديين ناشطين في مجال الإرهاب. ومثال واحد بارز على ذلك هو مقتل هشام علي صيداني (الملقب ابو الوليد المقدسي) في 13 تشرين الأول/أكتوبر، وهو أحد الزعماء الرائدين في حركة "التوحيد والجهاد" وله سجل طويل من الأنشطة الجهادية في الأردن والعراق وغزة. ووفقاً للمخابرات الإسرائيلية، كان على وشك تنفيذ هجمات إرهابية ضد إسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك استهدفت إسرائيل نشطاء في غزة لهم صلات واضحة بهجمات كانت على وشك الحدوث أو أخرى كانت قد ارتكبت من سيناء، وتمتنع عن شن هجمات في شبه الجزيرة ذاتها خوفاً من تقويض العلاقات المتعثرة مع مصر. وكانت النتيجة قيام واقع جديد يشمل تكتيكات من باب العين بالعين والسن بالسن وزيادة سريعة [في العمليات الإرهابية]، مع عدم وجود نهاية في الأفق. وفي 23 تشرين الأول/أكتوبر تعرض جندي إسرائيلي لإصابات بالغة جراء انفجار عبوة ناسفة على السور الحدودي مع غزة. وقد ردت إسرائيل بهجمات جوية ضد المقاتلين في غزة، الذين ردوا بدورهم بوابل من الصواريخ بلغ نحو ثمانين صاروخاً خلال اليومين التاليين. وقد أدى وقف إطلاق النيران بوساطة مصرية إلى تقليل حدة المصادمات لفترة وجيزة، حيث إن الجماعات الجهادية لن تلتزم به. والواقع أنه بالنظر إلى النفوذ المحدود للقاهرة على هذه الفصائل، فإن قدرتها التقليدية على الوساطة بين إسرائيل وغزة قد ضعفت. موازنة «حماس» بين الضغوط لا تزال «حماس» هي السلطة الحاكمة للقطاع كونها تمتلك مفتاح السيطرة على الوضع المتقلب في غزة. بيد أن زيادة أنشطة السلفيين والجهاديين تمثل تحدياً خطيراً يضع الحركة بين المطرقة والسندان. فمن الناحية الأيديولوجية، ترى «حماس» نفسها جماعة جهادية إسلامية ملتزمة بتدمير إسرائيل من خلال "المقاومة المسلحة". ولا ترغب في أن تخسر أوراق اعتمادها كما أنها تستاء من الجماعات الجهادية التي تصورها على أنها تتعاون مع إسرائيل وتحميها. وفي الوقت ذاته تقع على عاتق «حماس» مسؤوليات داخلية وخارجية باعتبارها حكومة القطاع. إن آثار عملية "الرصاص المصبوب" لا تزال ماثلة في الأذهان، كما أن مصر تضغط على الحركة من أجل ضبط النفس والاحتواء. ومع فقدان سوريا كعامل دعم رئيسي، وما ترتب على ذلك من صدع مع إيران، والعبء الزائد على قيادتها في غزة، أصبحت «حماس» أكثر اعتماداً على القاهرة ومن ثم فإنها تتوخى مزيداً من الحذر لئلا تقوض علاقتها معها. ورغم تعزيز وضع «حماس» بفضل صعود جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر المجاورة لها، إلا أنها لم تتلقى دعماً تلقائياً من الحكومة المصرية بعد الثورة. وبعد أن فقدت القاهرة سيطرتها على أجزاء من سيناء وحولت تركيزها باتجاه التحديات الداخلية، بدأت الآن تطالب «حماس» بأن تسيطر بشكل أفضل على الجهاديين في غزة، وتوقف أنشطتها العابرة للحدود داخل سيناء وعبر شبه الجزيرة، ومنع عمليات التصعيد. وعلاوة على ذلك، ترى «حماس» أنها على وشك أن تكسر العزلة المفروضة عليها والمأزق الاقتصادي الذي تعاني منه بمساعدة مظلة سنية حامية تقدمها مصر وقطر وتركيا. هذا وتعد زيارة أمير قطر إلى غزة في 23 تشرين الأول/أكتوبر - وهي أول زيارة رسمية على الإطلاق يقوم بها رئيس دولة إلى القطاع الذي تسيطر عليه «حماس» - مرحلة رئيسية في هذه العملية. كما أن المساعدات التي قدمها بمبلغ 400 مليون دولار إلى جانب تعهدات تركية وغيرها من الموارد المالية قد تحوّل «حماس» إلى نموذج أكثر نجاحاً من شقيقتها المنافسة حركة «فتح» في الضفة الغربية التي أصبحت الآن على حافة الانهيار الاقتصادي بسبب فقدان الدعم المالي الخارجي. و«حماس» مطمئنة إلى فكرة أن هذه الحماية قد تُعقد تردد إسرائيل في تصعيد الأوضاع والدخول في أتون عملية "رصاص مصبوب" ثانية. بيد أن النفوذ السني يقيد أيضاً من الإجراءات التي تقوم بها الحركة. وحيث تناور «حماس» بين هذه الضغوط المتضاربة، فإنها تلعب لعبة معقدة ومحفوفة بالمخاطر تضعها على حافة الهاوية. وتسعى الحركة جاهدة إلى كبح جماع الجهاديين ومنعهم من تصعيد التوترات، لكنها تحجم بشكل عام عن فرض إرادتها بشكل مباشر ما لم تمثل تحدياً مباشراً لسيطرتها على غزة. ورغم أن «حماس» لا تبدأ عادة بإطلاق صواريخ ضد إسرائيل، إلا أنها تغض الطرف عن الآخرين عندما يقومون بذلك، أو تقوم في بعض الحالات بتوقيف الجناة وإطلاق سراحهم بعد ذلك بفترة وجيزة. وخلال الأسابيع الأخيرة، انضمت «حماس» إلى عمليات إطلاق الصواريخ في بعض المناسبات وتحملت المسؤولية علانية عنها، رغم أنها لم تطلق سوى صواريخ وقذائف قصيرة المدى صوبتها نحو مساحات مفتوحة، أو ما تطلق عليه "أهداف عسكرية". إسرائيل بين المطرقة والسندان بعد مرور أربعة أعوام تقريباً على عملية "الرصاص المصبوب"، بات واضحاً للإسرائيليين أن قدرتهم على الردع في غزة تتآكل. فالصواريخ والقذائف التي تتساقط يومياً على جنوب إسرائيل دفعت مئات آلاف الإسرائيليين إلى الاختباء في الملاجئ، مما شكل ضغطاً على الحكومة لكي تتخذ إجراء أقوى ضد «حماس». وبناءً على ذلك صعّدت القوات الإسرائيلية من هجماتها الجوية المحددة ضد أهداف جهادية وأخرى تابعة ل «حماس» في محاولة لإجبار «حماس» على فرض وقف إطلاق النار على الجماعات القتالية المتشددة الأخرى. بيد، نظراً للديناميات الداخلية في غزة، فإن هذه الجهود لم تُؤت ثمارها بعد. كما أن إسرائيل عززت من دفاعاتها الإيجابية والسلبية مع إدخال نظام بطاريات "القبة الحديدية" لاعتراض الصواريخ وبناء ملاجئ إضافية، لكن هذه التدابير غير كافية لمجابهة التحدي المتزايد. ويقيناً أن إسرائيل لديها أسباب استراتيجية قوية لتجنب اندلاع مواجهة كبرى في قطاع غزة. كما أن عليها اتخاذ قرار حول إيران في العام المقبل، فضلاً عن أنها تواجه حالة كبيرة من عدم اليقين على طول حدودها مع سوريا ولبنان. كما أنها تتوخى الحذر بأن لا تتزعزع علاقاتها الحساسة جداً مع مصر، وهو الوضع الذي سيتحقق في حالة قيام إسرائيل بغزو غزة على سبيل المثال. ورغم أن الانتخابات القادمة في أواخر كانون الثاني/يناير تشجع على اتخاذ ردود قوية وقاسية في غزة، إلا أنها تحول دون التصعيد الشامل. ورغم ذلك، إذا لم تتمكن إسرائيل من وقف الاتجاه الحالي، أو إذا تسببت نيران الصواريخ في وقوع أضرار بدنية أو نفسية لا تُحتمل (مثل شن هجوم قاتل على إحدى المدارس)، فسوف تجد إسرائيل نفسها مرغمة على شن عملية واسعة النطاق في غزة. الخلاصة إن الوضع في غزة ملتهب، بينما تقوم «حماس» والجماعات المسلحة الأخرى بإشعال النيران في براميل البارود. ويتطلب ذلك جهوداً فورية للحيلولة دون وقوع تصعيد غير مبرر. يجب أن تفهم «حماس» أنها تسيء تقدير استعداد إسرائيل لمواصلة التعرض للنيران وأن تُدرك أنها سوف تواجه تبعات غير مرغوبة إلى الحد الذي قد تفقد معه سيطرتها على غزة. وبالإضافة إلى ضغوط إسرائيل، يجب على الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي استغلال نفوذهما على الداعمين الرئيسيين ل «حماس» - وهم تحديداً مصر وتركيا وقطر - لإقناع الحركة بالتشديد على الجهاديين وتطبيق قرار وقف إطلاق النار. ------------------------------------------- مايكل هيرتزوغ هو عميد (احتياط) بالجيش الإسرائيلي وشغل سابقاً منصب رئيس هيئة موظفي مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي.