تعرضنا في الجزء الأول والثاني لأهمية حرب غزة كنقطة تحول في الكفاح الطويل بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، مع تحليل لأداء المقاومة الفلسطينية في استخدام الصواريخ أثناء العملية الذي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية اسم "حجارة السجيل". ولآداء الجانب الإسرائيلي في مواجهة صواريخ المقاومة الفلسطينية أثناء العملية التي أطلق عليها " عامود السحاب". نستكمل في الجزء الثالث والأخير تحليل الجوانب السياسية والإستراتيجية. الصواريخ الفلسطينية في مواجهة القبة الحديدية (الجزء الثالث) يبدو أن هدف إسرائيل الرئيسي من العملية العسكرية "عامود السحاب" كان استعادة قوة الردع التي جعلت غزة هادئة إلى حد كبير عقب عملية "الرصاص المصبوب" التي انتهت في أوائل 2009، وقد استمر ذلك الهدوء النسبي الذي أعقب الاجتياح البري حتى عام 2011، لكن الوضع تغير عام 2012حيث أطلق من غزة ما بين (750 إلى 800 ) صاروخ على إسرائيل. تتشكل إستراتيجية إسرائيل تجاه غزة بناءاً على موقف حماس من ملاحقة الفصائل الجهادية التي أصبحت التهديد الأكبر لإسرائيل. فخلال فترات مختلفة منذ عام 2009، توقفت "حماس" عن إطلاق الصواريخ لكنها لم تمنع جماعة "الجهاد الإسلامي الفلسطينية" وغيرها من الجماعات الجهادية الأخرى من القيام بذلك. حتى في الحالات التي قامت حماس باعتقال مرتكبي تلك الهجمات فإنها كانت تفرج عنهم بعد ذلك بفترة وجيزة. وخلال الأشهر السابقة للعمليات، شاركت "حماس" بفاعلية في بعض الهجمات رداً على اتهامات الحركات الجهادية لها بأنها تتخلي عن مظلة "المقاومة" (كما اتهمت حماس حركة فتح من قبل). وفي ضوء هذا الوضع، قررت إسرائيل على ما يبدو أنه لا يمكن الاعتماد على "حماس" للحفاظ على وقف فعلي لإطلاق النار. حيث بدأت عملية "عامود السّحاب" عقب قيام إسرائيل بقتل نائب قائد كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس (أحمد الجعبري (52 عاما( بتاريخ 14 نوفمبر 2012 وذلك باستهدافه بصاروخ أطلق من طائرة استطلاع باتجاه مركبة جيب كان يستقلها. و يعتبر الجعبرى قيادة بارزة في حماس حيث يعتقد على نحو واسع في فلسطين أن الجعبرى هو القائد العام الفعلي لكتائب القسام. وتعتبره إسرائيل هو المخطط لبعض العمليات الانتحارية داخل البلدات الإسرائيلية أوائل التسعينيات، كما تتهمه بالمسؤولية عن اسر جلعاد شاليط وقتل جنديين آخرين. ومن أبرز إنجازاته على الأرض منذ عام 2007 تنظيمه للجناح العسكري لحماس وتحويله من فصائل مقاومة إلى كيان أشبه بالجيش النظامي، يتكون من سرايا وكتائب وألوية والذي يقدر عدده الآن بنحو 20 ألف مقاتل شبه نظامي. ويشير استهداف الجعبري في بداية الحملة إلى أن إضعاف قدرات الحركة العملياتية كان هدف رئيسي للعملية. بدأت "كتائب الشهيد عز الدين القسام" الجناح العسكري لحركة حماس الرد على العدوان الإسرائيلي والذي بدأ باغتيال الجعبرى، وأعلنت كتائب القسام أن "الاحتلال سيعيش أياماً من جهنم اعتباراً من هذه الليلة" ردا على جريمته. وجاء موقف حكومة هنية مطابق لموقف كتائب القسام حيث دعا هنية الشعب الفلسطيني لأن يكون صفاً واحداً متلاحماً في كافة أماكن تواجده في وجه هذا العدوان، كما دعا الأشقاء العرب وتحديداً مصر إلى أن تعبر عن روح الشعب المصري والثورة والرئاسة المصرية الجديدة لكبح هذه الهجمة البربرية ونصرة غزة وأهلها. أطلقت المقاومة في أيام القتال الثمانية 1500 صاروخ استهدفت مدن أشدود وعسقلان الساحلية حيث كان عدد الصواريخ التي سقطت على مدن الجنوب الإسرائيلي كالتالي: أشدود 190 صاروخاً، بئر سبع 170 صاروخاً وسديروت 120 صاروخاً. بالإضافة إلى أراضي مفتوحة بالقرب من إحدى المستوطنات في القدس، إلى جانب مناطق في أقصى الجنوب مثل ديمونة (الواقعة على بعد خمسة وسبعين كيلومتراً من غزة والتي هي موطن المفاعل النووي الإسرائيلي). وذكرت التقارير أن صواريخ فجر 5 ذات المدى الأطول التي وُجهت إلى منطقة تل أبيب هي المرة الأولى منذ "حرب الخليج" عام 1991 التي يجري خلالها استهداف المدينة بهذه الطريقة. وعلى الجانب الآخر ووفقاً للبيانات الإسرائيلية، فقد نفذ الطيران الإسرائيلي 1500 غارة جوية ضد أهداف في غزة، كان من بينها 19 موقعاً لقادة في حركة حماس، و30 منزلاً وموقعاً كان يختبأ فيه قادة ميدانيين لفصائل المقاومة الفلسطينية، وقواعد إطلاق صواريخ ومواقع تخزين أسلحة وصواريخ وأماكن قيادة وسيطرة بالإضافة لأنفاق التهريب، حيث قصفت إسرائيل 140 نفق تهريب على جانبي الحدود بين غزةوسيناء، بالإضافة إلى 66 نفق تستخدمهم حماس لإخفاء الأسلحة وقيادات الحركة. أما فيما يتعلق بالخسائر البشرية فقد سقط 177 شهيد فلسطينى و900 جريح، بينما سقط في إسرائيل 5 قتلى و240 جريح. الموقف المصري رداً على الأزمة، سحبت مصر سفيرها من إسرائيل وجاء تصريح الرئيس مرسى بأنه "يجب على إسرائيل أن تدرك أننا لا نقبل العدوان الذي يؤثر سلباً على أمن المنطقة واستقرارها". وأضاف أن أهل غزة يجب أن يعلموا "أننا نقف إلى جانبهم لوقف هذا الاعتداء عليهم". وهذا الموقف طبيعي لأن مصر تهتم كثيراً بالأوضاع في غزة وتعمل على إضعاف احتمال تكرار العنف في غزة في المستقبل. حيث أن تصاعد الأمور مثل حرب غزة السابقة "الرصاص المصبوب" وتحول العمليات العسكرية لحرب شاملة (برية ، بحرية، جوية) بالتأكيد كان سيزيد من معاناة الفلسطينيين في غزة وقد يؤدى إلى نزوح جماعي إلى سيناء كما حدث من قبل وما قد يترتب عليه من تبعات وأخطرها الإستيطان القصرى للفلسطينيين في سيناء في حالة قيام إسرائيل بإعادة احتلال ممر (فيلادلفيا- صلاح الدين). هذا بالإضافة للغضب الشعبي الداخلي والخارجي وبصفة خاصة من الكتلة الثورية وشعوب الربيع العربي وخاصة أن جماعة الإخوان المسلمين كانوا يتحدثون عن تحرير القدس فلنتخيل الموقف في حالة العجز عن رد عدوان على غزة التي هي على حدود مصر. لذا كان لا يوجد بديل مقبول للخروج من الأزمة سوى نجاح اتفاقية الهدنة برعاية الرئيس محمد مرسى كوسيط في المفاوضات, هذا الوضع الذي منحه بعض القبول من قبل حركة حماس نظراً لما تتمتع به مصر من نفوذ على "حماس". حيث ترى الحركة في غزة أن مستقبلها مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين في مصر. ولاشك أن مرسى كان يحتاج لهذا النجاح على المدى القصير على أقل تقدير، قبل قيامه بزيارته الرسمية الأولى إلى واشنطن، في الوقت الذي يتساءل فيه الجميع حول اتجاه النظام المصري الجديد، لذا فإن مرسى وإدارته قاموا ببذل أقصى جهد لتعزيز دوره في المفاوضات لوقف إطلاق النار لإقناع الأمريكيين بأن مرسى جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة. وقد جاءت ردود الأفعال الدولية لتؤكد نجاح مرسى في الوساطة حيث نال الرئيس محمد مرسي الثناء من واشنطن ودول أخرى. وقد فسّر العديد من المحللين مفاوضات مصر مع إسرائيل التي أفضت إلى إنهاء أزمة غزة، كمؤشر بأن مرسي على الرغم من كراهيته لإسرائيل الموثقة جيداً خلال السنوات التي قضاها عضواً وقيادي في جماعة "الإخوان المسلمين " سوف يتمسك باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979. ومن اللافت للنظر قيام مؤسسة الرئاسة بفتح قناة اتصال سياسي مباشر مع إسرائيل، بمعزل عن مسار المخابرات العامة القائم منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979. لتكون المرة الأولى التي تُجرى خلالها اتصالات سياسية على مستوى عالي بين مصر وإسرائيل. وكانت بنود اتفاق الهدنة الموقع بالقاهرة بتاريخ 12 نوفمبر 2012 حسب إعلان الرئاسة المصرية كما يلي: 1- تقوم إسرائيل بوقف كل الأعمال العدائية في قطاع غزة برًا وبحراً وجوًا. 2- توقف إسرائيل الاجتياحات والاغتيالات في غزة. 3- تقوم الفصائل الفلسطينية بوقف كل الأعمال العدائية من قطاع غزة تجاة إسرائيل بما في ذلك إطلاق الصواريخ والهجمات عبر الحدود. 4- فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع، وعدم تقييد حركة السكان، أو استهدافهم في المناطق الحدودية. 5- بدء إجراءات تنفيذ ذلك بعد 24 ساعة من بدء سريان الهدنة. 6 - في حال وجود ملاحظات من أي طرف، عليه الرجوع إلى مصر للمتابعة. وكان من نتائج هذا الاتفاق أن إسرائيل لم تتعرض لأية هجمات صاروخية من قطاع غزة حتى تاريخ كتابة هذا المقال، وذلك للمرة الأولى منذ سنوات التي لم تصدر أي تقارير إسرائيلية عن حدوث هجمات من قطاع غزة، الذي كان على مدى عقود المصدر الرئيسي للتهديد ضد إسرائيل. كما نجحت إسرائيل في وضع مصر كضامن يعتمد عليه للحفاظ على وقف فعلي لإطلاق النار وفي المقابل، قد تصبح "حماس" في وضع أفضل لإنتزاع تنازلات اقتصادية وغيرها من إسرائيل لتخفيف القيود الكثيرة المفروضة على غزة، وقد تمهد حالة الاستقرار عقب الهدنة الطريق لإجراء المصالحة الفلسطينية ويؤكد ذلك تصريح خالد مشعل قبل زيارته الأخيرة لغزة إن "ثمة وضع جديد يسمح بتحقيق المصالحة." وأخيراً تحية إكبار وإجلال للمقاومة الفلسطينية الباسلة. عميد مهندس متقاعد/ سمير راغب محلل سياسي واسترتيجى