من المتفق عليه أن اللعبة السياسية في عالمنا العربي محصورة بين ثلاثة لاعبين أساسيين: السلطة، التيار الإسلامي، نخب فسيفسائية علمانية. ولاشك أن للخارج مشاركة قوية في اللعبة السياسية في عالمنا، لكن لنحاول التغاضي عنها الآن، ونركز على اللاعبين المحليين الأساسيين، فمثلاً الشباب والطلبة والتجار والموظفون أصبح لهم مشاركة سياسية لكنها لا زالت محدودة التأثير ولا تستقل بذاتها بل لابد لها من احتضان أحد اللاعبين الأساسيين. والكلام سيكون عن عموم حركة اللاعبين الأساسيين لا عن تفاصيل واستثناءات هنا أو هناك. وبين هؤلاء اللاعبين علاقات متباينة، فمثلاً السلطة في عالمنا العربي تتوزع بين أنظمة لها خصومة أيدلوجية مع التيار الإسلامي مثل سوريا والجزائر، وبين أنظمة خصومتها سياسية مع التيار الإسلامي، ولكن حين يشتد صراعها مع التيار الإسلامي فإنها تستعين/ تتحالف مع التيار العلماني لشيطنة التيار الإسلامي كما هو قائم حاليا في مصر وما حولها. ولكن في المقابل غالباً ما تستعين السلطات بالإسلاميين بشكل مباشر أو غير مباشر لصد الضغط الخارجي الذي يمس ويهدد مكتسبات السلطة كزيادة الحريات السياسية والديمقراطية والشفافية ومحاربة الفساد! والغريب أن السلطة والنخب العلمانية ما ينظرون إلى بعضهم البعض نظرة ازدراء واحتقار، فالنخب العلمانية تعتبر السلطات جاهلة وبليدة ولولا القوة العسكرية أو الإرث لما استحقت مكانها، والسلطات تعتبر تلك النخب نخبا عميلة مرتبطة بالسفارات الغربية والشرقية ومنفصلة عن واقعها، ولولا التوصيات الخارجية بشأنها لكانت قضت عليها منذ زمن بعيد. برغم أنه في الماضي كان التحالف قائم بين الأنظمة الملكية والتيار الإسلامي ضد النخب العلمانية اليسارية المدعومة من الأنظمة الثورية، ولكن مع انكسار الدول الثورية فترت العلاقة بين الطرفين، ثم استبدلت الأنظمة العلمانيين اليساريين بالإسلاميين، وبعد زوال الإتحاد السوفيتي تحولت قبلة اليساريين العرب إلى أمريكا فأصبحوا نخباً ليبرالية تستقوى بالخارج !! ويشترك التيار الإسلامي والأنظمة الملكية خصوصاً في كونهما يمتلكان شرعية تاريخية واجتماعية وأحياناً دينية، بخلاف العلمانيين السلطويين والنخبويين، والذين هم طارئون ومخالفون لهوية الأمة وتاريخها ومجتمعها وما حكموا إلا عبر انقلابات عسكرية، وهو المشهد الذي يتكرر اليوم في مصر. ولأن التيار الإسلامي هو التيار الكبير الحقيقي والأكثر انتشاراً وقدرة من الفسيفسائية العلمانية، وهو من يشكل تحدياً للسلطات في حالة الانتخابات أو في حالة القمع والكبت، فغالباً ما يتحالف العلمانيون مع السلطة ضد الإسلاميين بغض النظر عن مواصفات السلطة (دينية، ديكتاتورية، رجعية، فردية، طائفية) لا يهم كل ذلك، مقابل البقاء في اللعبة والتأثير فيها؛ ونقطة الالتقاء الوحيدة بين الطرفين هي في موضوع المتع الفردية (الأهواء)، وإلا فبينهم خلافات سياسية واقتصادية وفكرية!! اليوم وبعد عامين على الربيع العربي يتبدى مأزق خصوم/ شركاء التيار الإسلامي واضحاً، ففي عصر الديمقراطية وفي عصر التواصل المجتمعي وفي عصر المشاركة والشفافية، فإن الشعوب العربية أعلنت موقفها في قبول وتأييد التيار الإسلامي بشكل كاسح بالانتخابات في عدد من الدول، ووصل الإسلاميون إلى السلطة في مصر، وهنا أسقط في يد الآخرين وأصبحوا في مأزق! ففكر البعض بالإسراع بالقضاء على التجربة الوليدة في مصر بكل الوسائل حتى تم لهم ذلك عبر الانقلاب العسكري، فهل خرجوا من المأزق؟ الجواب: لا، فالمأزق تعمق وازداد. فقد أنتج هذا الانقلاب حالة من ردة الفعل العكسية بتوحد الإسلاميين من جهة وحالة تعاطف والتفاف حول الإسلاميين من قبل الجماهير عبر العالم، ووضع السلطات والنخب العلمانية والغرب أمام امتحان الديمقراطية الحقيقي، وهو القبول بالخيار الشعبي والتزام العمل السياسي الدستوري والسلمي، ومما فاقم مأزق المنقلبين ومن خلفهم من الداخل والخارج بالرفض الشعبي السلمي العام والمستمر للانقلاب، مع التمسك بالسلمية وعدم الانجرار للعنف. يتبدى اليوم مأزق السلطة والنخب العلمانية في تحديد طريقة التعامل مع التيار الإسلامي سواء بصفته خصما ومخالفا أو بصفته شريكا في الوطن! فالتيار الإسلامي هو التيار الأكبر وهو الذي يحصد نتائج الانتخابات، وهو المتمسك بالسلمية والدستورية، ومطالبه بالتقدم نحو الإسلام مطلب شعبي لا نزاع فيه حتى لجأت الأحزاب المنافسة له على تبني مطلب تحكيم الشريعة كما فعل الحزب الوطني وحزب الوفد في مصر في انتخابات 84 و86!! والخيارات أمام السلطات والنخب العلمانية محدودة، وهي: 1- إما العودة للسياسات الأمنية لاستئصال الإسلاميين وهو الحل الذي ثبت فشله في كل البلاد والتجارب وكانت نتيجته دوماً عودة التيار الإسلامي بشكل أقوى وأكبر وأكثر انتشاراً!! 2- أو الانقلاب على الديمقراطية ورفض نتائج الانتخابات وتبني منطق الاستبداد، وتبرير ذلك بكون الجماهير غبية وجاهلة ولا تعرف مصلحتها في تكرار لمقولات قديمة لفؤاد زكريا وأمثاله من ربع قرن، ففي كتابه الحقيقة والوهم، يقول: "في رأيي أن اتساع القاعدة الجماهيرية التي تنادي بمبدأ معين، لا يمكن أن يكون مقياساً لنجاح هذا المبدأ، إلا في حالة واحدة فقط هي التي يكون وعي هذه الجماهير ناضجاً كل النضج"، وطبعاً النضج برأيه هو العلمانية!! وهذين الخيارين يقولان للعنف والتطرف أهلاً وسهلاً، فهل هذا ما يريدونه، حتى يتجاوزوا حالة المطالبة الشعبية بالعدالة والشفافية ومحاربة الفساد وفشل التنمية طيلة العقود الفائتة، لأنه لا صوت يعلو على صوت محاربة التطرف!! 3- أو تغليب منطق العقل والحكمة في التعامل البناء العادل مع التيار الإسلامي، وهو الخيار الصحيح والوحيد الذي سيخرج بلداننا من مأزقها. التيار الإسلامي بعمومه تيار عاقل ومعتدل وغير متطرف في خياراته، ولذلك فالوصول لتفاهمات ومواءمات ليس أمراً صعباً أو مستحيلاً، ولكن بشرط أن يقبل الطرفان الآخران بقواعد للعبة السياسية تبعاً لمتغيرات الواقع. ومن هذه القواعد الجديدة: •الالتزام الحقيقي بالدستورية والديمقراطية والتي تقتضي تنازل السلطات والنخب العلمانية عن مكتسبات قديمة بغير حق. •القبول الصادق بشراكة سياسية عادلة بين الأطراف الثلاثة بحسب الثقل الشعبي لكل طرف. •الجدية في تأسيس منظومة قانونية وقضائية جديدة تتسم بالشفافية وتستطيع فعلاً محاربة الفساد وتنمي العدالة بين الناس. •العمل على تنفيذ رغبة القطاع الأكبر من الشعب بالتقدم نحو الشريعة الإسلامية، عبر: - عدم معاداة/ تجاهل الدولة للإسلام في القطاع الثقافي والإعلامي، فلم يعد مقبولاً أن القطاع الأكبر من دافعي الضرائب مهمش في أنشطة الدولة الثقافية والإعلامية والشبابية. - رفع الحواجز والعقبات الموضوعة أمام المحجبات أو الملتزمين دينياً. - تفعيل القوانين الموجودة في قضايا الأخلاق والعرف العام. - تشديد العقوبة على التطاول على الشريعة الإسلامية ومقدساتها. - البدء في فرض الزكاة والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في ذلك، لتحقيق العدالة الاجتماعية. - عدم إصدار قوانين جديدة تخالف الشريعة الإسلامية، والعمل على تنقيح القديم المخالف منها للشريعة. - عدم العبث بقانون الأحوال الشخصية وإخضاعه لأهواء المنظمات النسوية المتطرفة.