45 في تقديرنا أن الكارثة تنفضح في منبعها الجوهري في استبعاد الدين : ( العلمانية ) إنه فى نظر كثير من الخبراء والباحثين لا أمل فى مواجهة كارثة البيئة المتفاقمة ما لم يُعدٌل الإنسانُ من سلوكه بالنسبة للأرض وجهاز الضبط الحرارى " الترموستات " الوحيد القادر على منع هذه الكارثة ، كما يقول آل جور نائب رئيس جمهورية الولاياتالمتحدةالأمريكية هو ما يكون فى داخل رءوسنا وقلوبنا وعقيدتنا (2) يقول آل جور : ( إنه إذا كانت أزمة البيئة العالمية ضاربة الجذور فى النمط مختل الوظائف ، المميز لعلاقة حضارتنا بعالم الطبيعة ، فإن الخطوة الأولى فى الحل تتمثل فى مواجهة هذا النمط .. وفهمه بالكامل وإدراك أثره المدمر على البيئة ، وعلينا أن ننتقل من مفهوم السيطرة على الأرض إلى مفهوم آخر ) (3) . إننا نزكى هذه البادرة المضيئة والتى تشير إلى بداية الحل الصحيح للمشكلة فى رحاب قوله تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } 11 الرعد . إن العلاج لا مفر له من أن يعود إلى تفكير الإنسان فى طريقة معيشته ، إن أزمة التخلص من الفضلات مثلاً وهى أزمة عالمية وهى أهون مشاكل أزمة البيئة المعاصرة هذه الأزمة تنبع من أسلوب هذا الإنسان فى الإنتاج والاستهلاك ، إنها تنبع من فهمه للاقتصاد ، تنبع من فهمه لعلاقته بالحياة الدنيا . تنبع من تكوينه العقدى الذى يصوغ علاقته بالطبيعة ، وعلاقته بالله . إن كل الأنواع الحية تنتج فضلات وجميعها بغير استثناء يمر بعمليات " إعادة التدوير " ليس بواسطة تلك الأنواع الحية نفسها ، ولكن بأشكال أخرى من الحياة ترتبط معها بعلاقات التكامل والتوازن . وتقوم سُنن الله فى الطبيعة بفصل العناصر ذات السمية لتدخلها فى عمليات بطيئة لتحولها إلى مواد غير سامة ، وهذا بالطبع يفترض المحافظة على علاقات التوازن التى وضعها الله بين الأنواع الحية . وإذا حدث أن تخطى أحد هذه الأنواع حدوده المرسومة له فى هذا النظام كشأن الإنسان المعاصر فى طموحه للسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم والتكنولوجيا والتنمية الرأسمالية فإن هذا النوع يتعرض لخطر أن يصبح عاجزاً عن الهرب من النتائج المترتبة على زيادة فضلاته فضلاً عن ذلك فإن احترام سُنن الله فى الطبيعة من شأنه أن يساعد على عدم إنتاج مشكلة الفضلات أصلاً ، ذلك لأن فضلات أحد الأنواع الحية تصبح مادة نافعة لنوع حى آخر ، هذا ولأننا نحن البشر فى ظل قيمة السيطرة على الطبيعة من قيم الحضارة العلمانية قد اكتسبنا كما نتوهم زيادة فى قدرتنا على تشكيل العالم ، فقد بدأنا فى إنتاج فضلات خرجت من ناحية كميتها واحتمالاتها السمية ، على الميزان الإلهى الموضوع لامتصاص هذه الفضلات ، ونتيجة لذلك فإن هذا الإنسان الذى استبعد عقيدة الألوهية ، وتعامل معها من موقف حيادى ، أو على الأقل أنكر عقيدة العناية الإلهية .. هذا الإنسان أصبح وفقاً للنواميس الإلهية نفسها " متروكاً لنفسه " وكان عليه أن يبحث عن طريق مستقل عن الله { قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم ، فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً }77 الفرقان ، ويقول تعالى { نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون } 67 التوبة . إن المطلوب هو تغيير يتناول أعماق النفس . إن المطلوب هو طريقة جديدة فى إنتاج السلع الاستهلاكية والتعامل معها . لقد يسر الإنتاج الضخم للناس أن يمتلكوا منتجات الحضارة الصناعية المرغوبة بدرجة أكبر ، وينظر إلى هذا التطور على مستوى العالم كله تقريباً باعتباره خطوة كبرى إلى الأمام . والحقيقة أنه حقق فعلاً تقدماً هائلاً فى مستوى المعيشة ونوعية الحياة، لمئات الملايين من البشر ، ومع ذلك فمن خلال تلك العملية لم تصبح المنتجات متاحة فقط ، ولكنها أصبحت رخيصة أيضاً ، ولما كان فى الإمكان استبدال منتجات أخرى بها مماثلة لها وأرقى منها ، فلم يعد هناك لدى الإنسان المتحضر المعاصر ، ما يدعوه لحمايتها أو ادخارها ، أو العناية بها كما كان الحال فى الماضى . وإذا ما واظب هذا الإنسان على عاداته الاستهلاكية فسوف تنتصر القمامة فى نهاية الأمر وفقاً لما يقوله المفوض العام السابق للشئون الصحية بولاية نيويورك ( يستطيع الناس التذمر من أفران حرق القمامة كما يحلو لهم، بل إنهم يستطيعون أن يثيروا الجدل حولها ، أو يرسلوا شكواهم بشأنها للصحف ، لكن فى النهاية يكون النصر للقمامة ) . إن المشكلة ترجع إلى صميم التكوين النفسى ، ومن ثم الفكرى ، والعقدى لإنسان هذه الحضارة الذى تم صياغته فى نسيج حضارة علمانية زعمت أنها محايدة فيما يتعلق بالله ، فهى منفصلة عنه ، واتجهت إلى تأليه الإنسان ، وتأليه العلم ، ورفعت شعار السيطرة على الطبيعة ، منذ بدء عصر النهضة ، بدلاً من شعار " الانسجام " مع هذه الطبيعة ، ضمن منظومة العناية الإلهية التى يقررها الدين . إنه كما يقول آل جور : ( ما لم نعثر على طريقة نغير بها على نحو جذرى حضارتنا وطريقتنا فى التفكير فيما يتصل بالعلاقة بين الجنس البشرى وكوكب الأرض فإن أولادنا سيرثون أرضاً خراباً ) . إنه كما جاء فى بعض المؤتمرات الإسلامية التى عقدت فى أوربا : ( إن السبب الحقيقى لما آلت إليه البيئة من وضع متدهور وخيم العاقبة تجاوز حدود التحمل الطبيعى إنما هو اعتزاز الإنسان غير المؤمن بوجود الله اعتزازُه بجبروته ، حيث سولت له نفسه بأنه السيد المسيطر على الطبيعة والبيئة ، فاعتقد ذلك يقيناً ، وسغبُه الاستهلاكى النهم بلا حدود ، لكل ما يشبع ملذاته على حساب الطبيعة ، سادراً فيها ، لا يرعوى ولا يرعى لها حقاً ، كأنما ليس لغيره حق مستقل فى الوجود السليم لا يضار فيه ) مؤتمر مرور ربع قرن على إنشاء المركز الإسلامى فى آخن بألمانيا فى يوم 17مايو1989 ، أنظر كتاب ( الإسلام كبديل لمراد هوفمان ) . إننا نصل من ذلك إلى أن الصانع الرئيسى لكارثة البيئة المعاصرة ، هو مشروع الحضارة الغربية الذى قام بتصميمه المهندسون " المحايدون فى العقيدة الإلهية " ولا يزالون يشرفون على مساره ويدفعون خطواته حتى الخطوة الأخيرة ، فى أعماق الهاوية ، ولن يتراجعوا لأنهم اجتازوا نفسياً وتاريخياً نقطة الرجوع ، ما لم يبادر صاحب المصلحة وهو الإنسان إلى تغيير نقطة البدء فى صناعة الحضارة { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا } 168النساء . إن نقطة البدء فى الحل لن تكون بمزيد من الارتباط بمنطلقات هذه الحضارة ( السيطرة الاستهلاك العلم وحده ) . ذلك لأن الكارثة إنما تقبل علينا من واقع تقدم هذه الحضارة ، فهل يمكن لهذه الحضارة أن تقدم الحل ؟ إذن لا تكون هذه الحضارة هى نفسها ، إن الحل لا يتصور مجيئه من هذه الحضارة بتركيبتها التى بدأت وآلتها التى انطلقت منذ عصر النهضة لأنها إنما قامت على استبعاد الدين . يقول هارولد لاسكى المفكر السياسى الشهير : ( إن منهج الغرب فى الحياة قد وضع فى بوتقة الانصهار وصارت العلوم سواء علوم الطبيعة أو علوم الحياة جزءا من رد الفعل شبه التلقائى ، وتفتقر إلى الهدف ، فهى لا تقدم لنا شيئاً غير تلك القيم التى تشيع الفوضى ، وفى مقدور هذه العلوم أن تتيح شيئاً من الرفاهية المادية ، ولكن يبدو أنها عاجزة عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحى ) أنظر كتابه ( محنة الديمقراطية ، ج 1 ، ص 122 13 مترجم ) . ونضيف : إنه حتى فى مجال الحياة المادية فقد وصلت هذه الحضارة إلى نقطة الانحدار الرهيب بيئياً والعجب كل العجب في أن الانهيار الذي تواجهه هذه الحضارة – واللهم لاشماتة - إنما جاءها كما جاءنا لا من نقطة التراجع في مشروعها الأساسي كشأن الحضارات التاريخية التي انهارت من قبل وإنما من نقطة التقدم فيها إن كثيراً من فلاسفة العلم المعاصر يتحدثون عن ( التقدم الفكرى والعلمى وهو أكبر مفخرة لما أتاه الإنسان الحديث على أنه مجرد أحبولة وخداع ، وأن هذا العالم الحديث قد أعطى مكاناً مركزياً فى الحضارة لجزء من الحياة البشرية ، ليس سوء جزء صغير بالنسبة إلى تلك الأجزاء التى تعمل على التقدم الإنسانى ) . أنظر كتاب أزمة الإنسان الحديث لتشارلز فرانكل مترجم ص 152 153 .. ونحن نقول : العيب ليس فى العلم ولكن فى علمنته أو وضعه بعيداً عن الله . ثم يقول تشارلز فرانكل : ( لن نفلح فى بناء حضارتنا على أساس ثابت وطيد إلا إذا تخلصنا نهائيا من الفكرة السطحية عن الحضارة ، هذه الفكرة التى نتشبث بها ، وتملك علينا أنفسنا ، ثم نأخذ من جديد بالنظرة الأخلاقية ويقول ( يجب أولاً أن نكون متأهبين للعمل الإيجابى فى العالم وفى الحياة ، ويجب ثانياً أن نكون أخلاقيين ) المصدر السابق ص 4 .
فهل هناك أمل فى أن تقوم حضارة بُنيت على مبادئ ثابتة ظلت تعمل وفقاً لآليتها مدة قرون أن تقوم بدورذاتي فى تغيير جلدها ؟ مرة أخرى إنه لابد لهذه الحضارة كما يقول تشارلز فرانكل أيضاً من أن تقوم بالتغيير لا عن طريق الوعظ .. ولكن لابد من أن تنشأ العقلية الإيجابية الأخلاقية التى تنبع من نظرة عقدية تشمل الكون والحياة ، ثم يقول بما يشبه اليأس ( هذا هو المصير الذى انتهينا إليه : لقد فقدنا كل نظرية فى الكون ) المصدر السابق ص 6 .
إن حل المشكلة يتطلب إعادة نظر الإنسان المعاصر فى موقفه من كيانه الروحى .. يحلل أرنولد توينبى المشكلة فيرجعها إلى غفلة الإنسان عن تكوينه المزدوج بين المادة والروح ، فيقول : ( إذا فقد الكائن البشرى روحه فإنه يفقد إنسانيته ، وذلك بأن جوهر الكيان البشرى هو إدراك لوجود روحى خلف المظاهر الطبيعية .. ) . وبسبب أنه يعيش فى وقت واحد فى المحيط الحيوى وفى العالم الروحى فهو كما وصفه السير توماس براون بدقة : حيوان برمائى ! وفى كل من الوضعين حيث يشعر أنه منسجم مع الوضع يكون له غاية خاصة ، ولكنه لن يتمكن من متابعة كل من الغايتين ، أو أن يخدم كلا من السيدين بإخلاص تام .... فأى البديلين يختار .... ؟ ) . ثم يقول ( وفى عصرنا فقط أصبح الاختيار أمراً لا مفر منه للبشرية ككل . ) (3) . لن يكون الحل إلا بتسليم العنصرين – الجسد والروح كليهما - لخالقهما وخالق الطبيعة : الله سبحانه وتعالى جميعا - وهذا بالضرورة يشير إلى ضرورة تحديد موقف الإنسان من الحياة الدنيا والآخرة . فلن يكون الحل فى ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً . ) . ولكنه فى الحديث الصحيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه فى قلبه وجمع الله له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة . ) أخرجه الترمذي في سننه . وهذا الحل هو ما تقدمه الحضارة الإسلامية . إن الحل هو في الخروج من حضيض العلمانية يتبع
------------------------------------------------------------------------ (2) الأرض فى الميزان ص 95 . (3) أنظر الأرض فى الميزان من ص 232 إلى ص 239 . (3) تاريخ البشرية ص 31 ، ج 1 .