مقارنةٌ خاطئة جرت فى الفترة الماضية بين ما حدث فى مدينة بوسطن من تفجير إرهابى وما حدث فى 11 سبتمبر 2001. فبعض التحليلات تساءلت عمّا إذا كانت إدارة أوباما ستكرر ما فعلته الإدارة السابقة من حروبٍ خارجية بحجة ملاحقة الإرهاب والإرهابيين، وعمّا إذا كان ما حصل فى بوسطن سيكون مقدمةً لتغييراتٍ فى السياسة الأمريكية الحالية تجاه خصومها الدوليين، كإيران وكوريا الشمالية وسوريا. أيضًا، ترافق الفعل الإجرامى فى بوسطن مع تصاعد وتيرة الحديث عن استخدام السلاح الكيمائى فى سوريا بحيث اعتقد البعض أن المنطقة داخلةٌ على حربٍ إقليمية واسعة وعلى تدخلٍ عسكرى أمريكى مباشر فى الأزمة الدموية السورية. ورغم الضجيج الإعلامى والسياسى الدولى الذى ترافق مع إعلان إسرائيل أولًا عن التثبت من استخدام الأسلحة الكيمائية فى سوريا، ثم تحرُك المؤيدين لإسرائيل فى الكونجرس الأمريكى للمطالبة بردود فعلٍ أمريكية فاعلة، فإن إدارة أوباما تعاملت بحنكة جيدة مع الأمر، ولم تقع فيما يمكن اعتباره فعلًا مكيدةً إسرائيلية استهدفت إعادة توريط الولاياتالمتحدة عسكريًا فى المنطقة بعد انسحابها من العراق، من خلال تحقيق مواجهة عسكرية أمريكية/غربية مع إيران وحلفائها الإقليميين، بحيث تسود الأولوية التى طالب بها نتنياهو منذ وصوله للحكم فى مطلع العام 2009 بأن تكون المواجهة العسكرية مع إيران هى الأولوية وليس التفاوض معها، وبألا تكون هناك أولوية فى المنطقة للملف الفلسطينى، كما فعلت إدارة أوباما فى بداية عهدها الأول. وشاءت الظروف مجددًا أن يعود الرئيس أوباما للبيت الأبيض فى مطلع هذا العام مع عودة نتنياهو للحكم بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، لكن مهما جرى طمس عناصر الاختلاف بين رؤيتى كلٍ من أوباما ونتنياهو لصراعات وحلول منطقة الشرق الأوسط، فإن التباين الجوهرى حاصلٌ بينهما. فأوباما أكد حرصه فى خطاب القسم الدستورى على نهج التسويات السياسية وعلى الحلول السلمية للأزمات الدولية، بينما يتناقض ذلك حتمًا مع توجهات حكومة نتنياهو الداعية للمواجهة مع إيران، وللتدخل العسكرى الأمريكى فى سوريا، والرافضة للدولة الفلسطينية المستقلة ولوقف الاستيطان فى الأراضى المحتلة. أشير إلى ذلك لأن ما حدث فى بوسطن، وما يحدث الآن فى سوريا وما أثير عن السلاح الكيمائى فيها، وما يتفاعل فى العراق ولبنان والمنطقة من تأجيج للمشاعر الطائفية والمذهبية، كلها أمور لا تنفصل عن أجندة إسرائيلية حالية لا تجد تبنيًا كاملًا لها من قبل إدارة أوباما وأجندتها الخاصة. فالمسألة ليست تحليلًا ينطلق من "نظرية المؤامرة"، بل هى وقائع على الأرض موجودة منذ منتصف التسعينات حينما صاغ نتنياهو بمعية عددٍ من السياسيين الأمريكيين ما عُرف ونُشر باسم: Clean Break وهى وثيقة: «الانفصال عن الماضى: إستراتيجية جديدة لتأمين الأمن»، التى صاغها عام 1996 ثمانية من كبار "المحافظين الجدد" والذين حاز بعضهم على مسئولياتٍ كبيرة فى الإدارة الأمريكية السابقة، وكان لهم القرار فى الحرب على العراق وفى إطلاق مقولة "الحرب على الإرهاب" فى العالم الإسلامى. فالحرب على العراق لم تكن تدميرًا لدولة عربية كبرى فقط، بل إشعالًا أيضًا لموجةٍ من الصراعات الطائفية والمذهبية، امتدت تفاعلاتها، وما تزال، إلى كل محيطها الإقليمى، وأدت أيضًا إلى تفكيك الكيان العراقى ونسيجه المجتمعى، وجعلت من "التجربة الأمريكية" فى العراق "نموذجًا" مرغوبًا إسرائيليًا لتطبيقه فى أماكن أخرى، كما هى المراهنة الآن على التدخل العسكرى الأمريكى/الغربى فى سوريا وضد إيران. لقد ضغطت إسرائيل بأشكال مختلفة خلال السنوات الأربع الماضية على إدارة أوباما، من خلال أعضاء فى الكونجرس وفى الإعلام، ومن مراكز الأبحاث والحملات الانتخابية للمرشحين الجمهوريين، من أجل دفع إدارة أوباما إلى الخيار العسكرى مع إيران. لكن ما نجح فيه نتنياهو، ومن معه فى أمريكا من قوى ضغطٍ فاعلة، فى تهميش "الملف الفلسطينى" لم يمكن سحبه على "الملف الإيرانى". فعسكرة الخلاف الأمريكى مع إيران هو مواجهة مرفوضة الآن على المستويات العسكرية والأمنية الأمريكية، وأيضًا فى دوائر صنع السياسة الخارجية، بسبب المحاذير العسكرية والأمنية لهذا الملف، وبسبب ارتباطه أيضًا بالعلاقات الأمريكية مع روسيا والصين والهند، وهى دول ترفض اعتماد الوسائل العسكرية مع طهران، إضافةً إلى رفض دول أوروبية عدة لمثل هذا الخيار لأنه سيعنى تورطًا لها أيضًا وأزمة طاقة خانقة لشعوب أوروبا، وسيؤدى إلى مزيدٍ من الانهيار الاقتصادى لبعض دولها. ولقد راهنت إسرائيل-نتنياهو أيضًا على أن تصعيد الأزمة مع إيران والمواجهة العسكرية لها، ولحلفائها فى سوريا ولبنان، سيوجد مناخًا من الصراعات الداخلية فى بلدان عربية عدة، مما يُشعل حروبًا أهلية عربية وإسلامية تفكك أوطانًا وتدعم المشروعَ الإسرائيلى للمنطقة، العاملَ على إقامة دويلاتٍ طائفية وإثنية تحكمها "الإمبراطورية الإسرائيلية اليهودية" التى تبحث الآن عن الاعتراف بإسرائيل كدولةٍ "يهودية". هذه "وقائع" إسرائيلية، عبر عنها نتنياهو، فى كلمته أمام الكونجرس الأمريكى إبان زيارته الأخيرة لواشنطن، بوضوح ونال تصفيقًا حادًا عليها، حينما تحدث عن لاءاته: لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا للعودة لحدود 1967، لا لوقف الاستيطان، ولا لتقسيم القدس التى ستبقى العاصمة الأبدية للدولة "اليهودية". كما أشار نتنياهو إلى الآمال التى تضعها حكومته على حركة الشارع العربى: "الذى لم يعد يتظاهر ضد إسرائيل، بل ضد حكوماته المحلية". ففى حقبة "الصراعات الدموية العربية"، التى تُراهن عليها إسرائيل، والتى ستسبق قيام الدويلات الدينية، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات فى القدس والضفة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينيى 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى "دويلات" ربما تحتاجهم عدةً وعددًا، بل ربما يكون ذلك، بمخططاتهم، الوقت المناسب لجعل الأردن "الوطن الفلسطينى البديل" مع أجزاء من الضفة الغربية. هذه "وقائع" إسرائيلية قائمة على الأرض، فى ظل حكومةٍ يقوم برنامجها على ما سبق ذكره من أجندة فكرٍ وعمل. فالمشروع الإسرائيلى ما زال يراهن على صراع عربى/إيرانى فى "الخارج الإقليمى"، وعلى صراعات وفتن طائفية ومذهبية وإثنية فى "الداخل العربى". إذ هذا وحده ما يصون "أمن إسرائيل" ومصالحها فى المنطقة، وما ينهى نهج المقاومة ضد احتلالها، وما يجعل "العدو" هو العربى الآخر (أو الإيرانى أو التركى المجاور)، وما يُنسى شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وما يجعل الثورات العربية الحاصلة قوة تغييرٍ وإسقاطٍ لكيانات ومجتمعات، لا لحكوماتٍ وأنظمةٍ فحسب!. (راجع التوصيات النهائية لمؤتمر هرتسليا الإسرائيلى الذى جرى عقده هذا العام). وما أشرت إليه فى البداية عن التفجير الإرهابى فى بوسطن لا أراه بعيدًا أيضًا عن تاريخ "الموساد" مع جماعات وأفراد كانوا يخدمون فى دول ومنظمات خصمة للغرب وإسرائيل، كما كان تاريخ "ماركوس وولف" فى قيادة المخابرات بألمانيا الشرقية لعقودٍ من الزمن وهو كان على علاقة بالمخابرات الإسرائيلية، فمن هو "وولف الإسلامى" فى الشيشان الذى أقنع "تامرلان" بالتفجير فى بوسطن؟!، وهل كان صدفة أيضًا استخدام اسم "ميشا" فى فترة ماركوس وولف واستخدامه الآن فى البحث عن العقل المدبر لتفجير بوسطن؟! ربما نعرف بعد عقودٍ من الزمن الإجابة. أعتقد، وأرجو أن أكون صائبًا، أن إدارة أوباما لن تقع فى الأفخاخ المنصوبة لها من أجل التخلى عن "نهج التسويات" وعن السعى للوصول مع موسكو والصين إلى تفاهمات تشمل سوريا وإيران وكوريا الشمالية، وأيضًا إمكانية عقد مؤتمر دولى بشأن الملف الفلسطينى. فالمصالح الوطنية الأمريكية فى هذه المرحلة تتطلب السير فى هذا الاتجاه رغم معارضة بعض أعضاء الكونجرس الأمريكى الذين ينطلقون من مصالح خاصة وارتباطات إسرائيلية معروفة. هناك الآن فرصة لتسوية سياسية للملف السورى، تعتمد التنسيق الأمريكى لا المواجهة مع القطبين الروسى والصينى، من أجل منع تطور هذا الملف إلى حروبٍ إقليمية وأهلية لن تحصد واشنطن منها أكثر مما حصدته فى حربها على العراق، ومما تحصده الآن فى حربها بأفغانستان، لكنها تسويات ستحل مشاكل العلاقة بين الأقطاب الدوليين، وليس تغيير واقع الحال المؤسف بين الشعوب العربية وما ينتشر فيها من وباء سرطانى تقسيمى ما زال علاجه ينتظر قوة المناعة فى الجسم العربى.