(1) كنت أتخيل أنه لم يعد هناك شيء آخر يمكن أن يقال عن كارثة نهر البارد التي حطمت كل حدود المعقول في معالجة أزمة من هذا النوع. ولكن ما سمعناه من تبجح المسؤولين اللبنانيين بما سموه نصراً في هذه المنازلة العبثية أقنعني بأننا لم نشهد نهاية هذه المهزلة بعد. كما أن الصمت اللبناني والعربي المريب عن هذه المأساة يثير أكثر من تساؤل.
(2) يجب أن أعيد هنا ما قلته مراراً من قبل (فقد تعلمنا للأسف ضرورة مثل هذا التكرار الممل) أنني لا أتعاطف مع أي جماعة إرهابية بغض النظر عن أي تسمية تسمت بها. وأضيف أنني أصنف جماعة فتح الإسلام في إطار جماعات الهوس السياسي السادرة في غي مبين. ولكن كل هذا لا يبرر معشار ما ارتكبته السلطات اللبنانية من تدمير يذر الحليم حيران. فما وقع يشبه استخدام الديناميت لمعالجة قمل الرأس، وهو يلقي بشكوك كبيرة علي القوي العقلية للطبيب المعالج.
(3) أما عندما يفتخر المسؤولون بهذا الإنجاز ويعدونه نصراً مبيناً كما سمعنا من وزير الدفاع اللبناني، فإن الأمر يتعدي حد المعقول بمراحل. وقد كان أكثر ما أثار العجب في مداخلة الوزير الهمام هو أنه لم يبدأ بذكر خسائر الجيش اللبناني، كما ينبغي لمن أرسل كل هذه الأعداد إلي حتفها بدون أي مبرر، بل بدأ بالافتخار بعدد قتلي فتح الإسلام الذين عدهم بمئتين وعشرين قتيلاً. ولكنه حينما وصل أخيراً إلي تعداد قتلي الجيش ذكرنا بأنهم كانوا 167، أي أنه عملياً كان هناك قتيل واحد من الجيش اللبناني لكل قتيل من خصومه الأقل تسليحاً بكثير. وهذه نسبة لا مثيل لها في مواجهة من هذا النوع.
(4) في أي بلد آخر كان لا بد أن تثار أسئلة لا حصر لها حول الإدارة السياسية والعسكرية لهذه العمليات، والثمن الذي دفعه الجيش والبلاد والمخيم لهذا النصر الأجوف علي بضع مئات من الخارجين علي القانون. وفي أضعف الإيمان كان لا بد أن يثبت المسؤولون أن مسلكهم كان الوحيد المتاح لحل هذه الأزمة. وعلي أي حال فإن أي قائد جيش يحتاج إلي مئة يوم للقبض علي مارقين معروفي العنوان ويخسر في سبيل ذلك مثل عددهم لا بد أن يشعر بثقل المسؤولية وأن يفكر في الاستقالة، لا أن يعتبر هذا السلوك الهمجي والمرتبك مدخلاً للترشح لسدة الرئاسة.
(5) بنفس القدر كان المرء يتوقع أن ينزوي وزير الدفاع والحكومة التي ينتمي لها خجلاً أمام هذا الأداء المخزي، لا أن يتخذه مادة للدعاية الانتخابية كما فعل السيد الوزير. ويزداد العجب حين يقرن هذا الأمر بالادعاء بأن هذا الانتصار المزعوم هو انتصار لوحدة وسيادة لبنان، وهو ادعاء يناقض ما صاحبه من الغمز واللمز (والتهديدات الصريحة ب الحسم ) تجاه الشركاء اللبنانيين في الوطن، في نفس الوقت الذي نسمع المدح يكال لحكومات عربية غير متهمة بالديمقراطية قيل أنها دعمت الحكومة في جهادها الباسل هذا.
(6) منذ عقود ونحن لا نسمع سياسياً لبنانياً يتحدث عن استقلال وسيادة لبنان إلا وهو يستعدي طرفاً أجنبياً علي جاره، ولا نسمع منادياً بوحدة البلاد إلا وسلاحه مشهور في وجه أخيه (إن لم يكن سكينه مغروساً في ظهره). وهذا ما ظل عليه حال لبنان منذ الحرب الأهلية بين الدروز والمارونيين في القرن التاسع عشر. وليس سراً أن توافق الأطراف الوطنية علي شكل الوطن الذي يراد له السيادة والاستقلال هو الشرط اللازم لهذا الاستقلال. ومشكلة الحكومة الحالية هو أنها تعتقد أنها اكتشفت نظرية جديدة تجعل الانقسام الوطني وسيلة للاستقلال وليس أقصر الطرق إلي الحرب الأهلية.
(7) الجيش اللبناني كسب الكثير من الاحترام في السنوات الأخيرة بعد أن نأي بنفسه إلي حد بعيد عن الاستقطابات السياسية التي مزقته والبلاد خلال الحرب الأهلية وما تلاها. ولكن التهور وسوء التقدير اللذين شابا العملية الأخيرة يعودان أساساً إلي أن البعض أراد أن يستخدم الجيش كميليشيا لتصفية حسابات سياسية. وفي حقيقة الأمر فإنه يستحيل وجود جيش وطني حقيقي بدون توافق وطني، بل يستحيل وجود وطن أساساً بدون مواطنين أو في ظل إقصائهم والانفراد بالأمر دونهم.
(8) القيادي الفلسطيني المغدور عصام السرطاوي علق بعد أن وصف البعض إجلاء منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982 بأنه انتصار للمقاومة بالقول: انتصار آخر من هذا النوع وسنجد أنفسنا في فيجي . ونحن نقول بنفس المنطق أن لبنان لو حظي بنصر آخر من نوع انتصار نهر البارد فسيكون في وضع يحسد فيه الصومال علي وحدة شعبه وأراضيه، ويحسد العراق علي أمنه واستقراره وسيادته الكاملة علي أراضيه. أعاذنا الله وإياكم من مثل هذه الانتصارات!