(1) في منتصف الشهر الماضي، استذكر العرب الحرب الإسرائيلية الجائرة التي استهدفت كل لبنان وأهله تحت دعوي القضاء علي حزب الله، فدمرت ما شاء الله من البني التحتية وقتلت من قتلت، وحرقت ما حرقت. وقد دار نقاش وقتها حول حق إسرائيل في أن تأتي ما أتت من تخريب وتدمير، حيث كان رأي فئة معروفة، علي رأسها الإدارة الأمريكية وحليفها توني بلير وعدد من قادة الدول العربية المعتدلة ، هو أن الخطأ كان خطأ حزب الله، وأن لإسرائيل أن تقتص منه وتسترد أسراها. أما غالبية العرب وكثيرون غيرهم فقد رأوا أن إسرائيل تجاوزت الحق والعدل في رد فعلها، خاصة وأن هجومها لم يتوجه إلي حزب الله ومعاقله وجنده، وإنما استهدف الطرق والجسور والموانئ والمطارات التي يستخدمها عامة اللبنانيين ومساكن المدنيين بدون تمييز.
(2) نفس السجال دار حول طريقة إدارة صراعات مماثلة، مثل غزو إسرائيل السابق للبنان في عام 1982 بحجة القضاء علي منظمة التحرير الفلسطينية، وهجوم سورية الذي سبق ذلك علي المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين (وهو الهجوم الذي رمزت له مأساة تل الزعتر)، وحملات الحكومة العراقية السابقة علي الأكراد والحالية علي معارضيها، وحملات الحكومة السودانية علي المتمردين الكثر عليها من الجنوب إلي دارفور. ولا ننسي هنا أحداث اشتهرت في عصرنا هذا من تيمور الشرقية إلي البوسنة وكوسوفو. وفي كل حالة كان السؤال يثور: إلي أي حد يمكن لجهة مسلحة أن تستهدف غير المحاربين في سبيل تحقيق أهدافها المتمثلة في دحر عدو آخر مسلح؟
(3) الانتقاد الأكبر الذي تم توجيهه للجهات التي وصفت بالباغية في هذه المواجهات هو إسرافها في استهداف غير المحاربين، إما تعمداً وإما بسبب عدم المبالاة بحياة الأبرياء وممتلكاتهم أو البنية التحتية للأقاليم المستهدفة. وهناك إجماع بأنه لا يمكن لأي غاية أن تبرر مثل هذا الإسراف، وهذه تحديداً نفس الحجة التي يستند إليها من يدينون الإرهاب الذي يتجاوز الحدود في استهداف الأبرياء لتحقيق غاياته التي قد تكون نبيلة.
(4) بكل المقاييس فإن ما استحله الجيش اللبناني في التهجم علي مخيم نهر البارد قد فاق في تعسفه تجاه الأبرياء واستهانته بمعاناتهم والبنيات التحتية لمقام أناس هم في نهاية المطاف لاجئون يعيشون علي هامش المجتمع، قد فاق ما قام به أولمرت ورهطه في حرب لبنان الماضية. علي الأقل إن أولمرت وجنده كانوا يستخدمون قنابل توصف بأنها ذكية، تهدم المناطق المستهدفة بتحديد أكبر، وتقلل ما يوصف بالأضرار الجانبية. ولكن ما نشهده اليوم في محيط نهر البارد وما حوله (وما خفي أعظم) يذكر بحروب عصور غابرة. فهل يجوز من أجل القبض علي فئة لا تتجاوز العشرات تشريد عشرات الآلاف وتدمير المساكن المتواضعة للاجئين وفرض الحصار عليهم بهذا الشكل الوحشي؟
(5) الأدهي والأمر هو صمت كل العرب تقريباً عن هذا التعسف الذي تجاوز كل حد معقول. فالغالبية، إن لم نقل الكل، من حزب الله إلي الحكومات العربية، يؤكدون دعمهم غير المشروط لحرب الجيش اللبناني المفتوحة علي سكان مخيم نهر البارد، علي سنة من يقول بجواز إلقاء قنبلة علي شخص لقتل الجراثيم في جسمه.
(6) هذا الصمت يفقد العرب أي سلطة أخلاقية (إن كان قد بقي لهم شيء من ذلك) لانتقاد الكيان الصهيوني أو الإدارة الأمريكية إذا قرروا تدمير مدن (أو حتي بلدان) عربية بكاملها بحجة القضاء علي الإرهاب فيها. وتتفاقم المشكلة حين نشهد أيضاً تواطؤ العرب، بل وحماسهم، لحصار غزة بحجة معاقبة حماس كما فعلوا من قبل حين وقفوا مع حصار العراق من أجل معاقبة صدام ! فبأي مبرر نعترض إذا غزت إسرائيل لبنان مجدداً إذا كنا لا نري بأساً بمعاقبة شعوب بكاملها لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية؟
(7) إننا لا نملك إلا أن نشعر بالخجل من هذا التبلد الأخلاقي العربي الذي لايكاد ينجو منه ناج، وهذه الانتقائية في إدانة العمل الإرهابي التعسفي الذي يصدر من الأجنبي والسكوت عن كبائر أفظع حين تصدر من ابن البلد. ولعل هذه هي الكارثة العربية الأكبر، فهي أكبر من الاحتلال والضعف العربي والعجز الجماعي للأمم والشعوب. بل إن هذا العجز الجماعي هو في حقيقته انعكاس لهذا الخلل المقيم. فإذا كانت الأمة لا تستطيع أن تأتي باضعف الإيمان، وهو إنكار المنكر بالقلب واللسان حين تصدر المنكرات من بين ظهرانيها، فأي أحقيقة لهذه الأمة في الاستقلال، بل حتي في الوجود؟
(8) لعل الوقت حان الآن لمبادرة عربية تتخذ من إدانة ما يحدث في نهر البارد وحوله بداية لانتفاضة عربية أخلاقية جديدة، تقوم باستنكار تهديم مخيم كامل علي رؤوس سكانه لمطاردة فئة باغية صغيرة اتخذت السكان دروعاً بشرية، وتمر باستنكار شامل لما يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون في كل الدولة العربية من معاملة لا إنسانية تخجل منها حتي إسرائيل، وتنتهي باستنكار وجود أنظمة القمع التي تعامل كل العرب كلاجئين في بلادهم، بل أقل من ذلك لأنها لا تمنحهم حقوق اللاجئين وأقلها حمايتهم من العسف. وإلا فلنتعذر لأولمرت وشارون لأننا أخجلناهم وأحرجناهم أمام أنصارهم من المتطرفين حيث سيقال لهم أعجزتم أن تفعلوا في جنين وغزة ما يفعله الجيش اللبناني في نهر البارد؟