د. أحمد مصطفى * منذ سنوات سرت في مصر نكتة طريفة عن شخص متنفذ اشترى شقة في الاسكندرية واخرى في القاهرة، ثم قرر أن “يفتح الشقتين على بعضهما”. وتلك عادة في البنايات الكبيرة في مصر ان يشتري شخص شقتين، أو أكثر، ليوصلهما معا كشقة كبيرة، وأحياناً يستهدف ان يكون له دور كامل في البناية من شقتين أو ثلاث. والمقصود بالطرفة هو ان صاحب النفوذ يستهدف السيطرة على البلاد، فيما بين الشقتين.
لست ادري لماذا تذكرت النكتة المصرية وانا استمع لنقاش بين صديقين، صحافي كبير واستراتيجي، لتحليل ما يجري في فلسطين وتصور سيناريوهات لتبعات سيطرة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على قطاع غزة. ولأن الصديقين ثاقبا النظر، بحق، فقد مرا بسرعة على أي جدل بيزنطي بشأن من يتحمل مسؤولية ما جرى ليصلا إلى محاولة تحديد من سيتحمل عبء ما يجري، وكيف يمكن تصور تطور الأحداث. ولأني لست صحافياً كبيراً ولا استراتيجيا فقد آثرت الا أن أروي الطرفة التي ذكرتها آنفا حتى لا تبدو تسفيها لنقاش جاد، لكني امعنت التفكير فيها وازدادت قناعتي بذلك السيناريو الذي تطرحه إذا اسقطت على الواقع العربي الحالي.
بغض النظر عن المقدمات التي أدت إلى ما جرى، تبدو الخلاصة المنطقية انه لم يعد ممكنا التعايش بين خط التسوية السياسية والمفاوضات مع المحتل، العدو، وخط المقاومة بكافة اشكالها. وليس المقصود هنا اي احكام قيمية أو مزايدة نضالية بالكلمات، بل محاولة لفهم ما اتصوره مقدمات للسيناريو الاكثر احتمالا. وبمعنى آخر لم يعد ممكناً ان يتحالف الاعتدال والتشدد (مع انه لا حيادية ولا موضوعية في الامر، فالاعتدال والتشدد يقاسان بمعايير مختلفة والمعيار هنا هو الموقف الأمريكي من قضايانا الاقليمية).
بداية لا يمكن فصل ما جرى في غزة عما يحدث في لبنان تحديدا، ولا عما يجري في المنطقة ككل خصوصاً في العراق. اما لبنان فهو نموذج مثالي للانفصال بين السياسة والمقاومة منذ حرب صيف العام الماضي بين حزب الله و”اسرائيل”، والتي انتهت بالقطيعة بين المقاومة اللبنانية والحكومة وسط عجز عربي وضغط دولي لعزل المقاومة وخنقها. ونتيجة عوامل كثيرة، منها الصغير المحلي أو الفئوي ومنها الإقليمي والدولي، انتهى التحالف الحكومي بين السياسيين والمقاومين في فلسطين (أو لنقل المتشددين على المعيار الأمريكي حتى لا يغضب من يتأففون من ذكر المقاومة والقومية) إلى وضع أتصور ان يستمر دون تطورات كبيرة حتى الانتخابات “الاسرائيلية” المقبلة وليست مفارقة استمرار الوضع اللبناني عالقا منذ نحو عام بانتظار انتخابات، سواء رئيس الجمهورية أو برلمانية.
هل يمكن ان يستمر الوضع في فلسطين هكذا شهورا، ربما ما لم تتدخل اسرائيل عسكريا فتقود إلى حالة اقرب لوضع العراق الآن مع محدوديتها. وقد لا تتحمل مصر ايضا وضعا كهذا على حدودها فتدفع بالامور إلى منحى ما. الا ان ذلك لا يغير شيئا من تصور سيناريو الشقق المفتوحة الذي في الطرفة.
ذلك ان بقعة المقاومة في لبنان “حزب الله” وبقعة المقاومة في فلسطين، “حماس” بانتظار بقعة أو بقعتين اخريين في المنطقة حتى يمكن فتح بقع المقاومة “على بعضها” ويتغلب اتجاه التشدد على اتجاه الاعتدال أمريكيا في المنطقة. وما يدفع إلى تصور هذا السيناريو كثير ومنطقي إلى حد كبير. فكما يرى صديقي، الاستراتيجي، لم تعد قدرة الجيوش النظامية في المنطقة بالشكل الذي اعتدناه، ولعله لم يرد القول ان تلك اصبحت سمة في العالم كله وليست قاصرة علينا. فالجيش الأمريكي في ورطة في العراق، وقوات حلف شمال الاطلسي في ورطة في افغانستان. ذلك انه ربما أصبح بالفعل أجدى وأكثر فعالية الدفاع عن اثنية أو مذهبية بشكل عقيدي من الهياكل الاحترافية التقليدية.
ويقود ذلك إلى القول بصراحة إن “الدولة” في العالم العربي والى حد كبير في العالم لم تعد كما كانت قبل عقود قليلة مضت وان الجماعات والحركات اصبحت قوى مؤثرة وفاعلة سواء باستخدام العنف أو اشكال النفوذ والقوة الأخرى. وإذا كانت أسباب ذلك في العالم مفهومة في إطار تطور وسائل الاتصال واشتداد تيار ما يسمى بالعولمة، التي على كونها تقرب المسافات، الجغرافية والسياسية وحتى القيمية، فهي تدفع إلى المزيد من الفردية والعنصرية. لكن لان لمنطقتنا خصوصيتها، فإن لدينا عوامل أخرى كثيرة لا مجال للخوض فيها هنا أدت إلى ضعف دور الدولة في المجتمع على رغم ما يبدو من قوتها الأمنية والإدارية أحياناً. ولا يمنع ذلك اننا تأثرنا أيضا بالتيارات الجديدة في العالم من حولنا.
لا أتصور ان الدعم الأمريكي والأوروبي والعربي لتيار السياسة الفلسطيني سيقضي على المقاومة، من حماس والجهاد وحتى فتح المسلحة، بالضبط كما لم ينفع الدعم الأمريكي والفرنسي في تغليب السياسيين في لبنان على المقاومة. وبالتالي لا يهم حتى احتمال تدخل “اسرائيل” عسكريا في غزة، خاصة مع تولي ايهود باراك وزارة الدفاع إثر فوزه برئاسة حزب العمل وتطلعه لتشكيل الحكومة المقبلة بعد فوزه في الانتخابات. فالمقاومة باقية، بل ويمكنها تعليق الأمور على طريقة حزب الله في لبنان لفترة طويلة ربما حتى يعزل جيب مقاومة آخر في مكان ما من العالم العربي. ويزداد هذا الاحتمال إمكانية إذا وصلت الأزمة بين إيران وأمريكا إلى حد تدخل عسكري أمريكي ضد طهران. وليس المقصود هنا هو ما تقول به أمريكا و”اسرائيل” من دعم ايران لتلك الحركات المقاومة لهما في المنطقة، بل المقصود تهيئة الاجواء لمزيد من الانفصال بين التشدد والاعتدال على طول الوطن العربي وعرضه. ويسهل عندها فتح الشقق على بعضها.