الواضح بعد اربعة ايام من هذه الحرب العدوانية الصهيونية على غزة، ان الحسابات الاسرائيلية اخذت تنقلب تدريجيا، فبعد ان نجحوا باغتيال رئيس هيئة اركان حماس احمد الجعبري، في سياق الخطة الحربية المبيتة"عمود السحاب-الغمام"، اخذت المفاجآت الفلسطينية تتلاحق تباعا، فنحن امام مشهد حربي هو الاول من نوعه في تاريخ الحروب الصهيونية على الشعب الفلسطيني، وفي تاريخ المواجهات المختلة في توازناتها العسكرية على طريقة كلاوزفيتز، فمن كان حقا يتوقع مفجآت استراتيجية كالتي نتابعها في هذه الايام...؟! تصوروا...! تل ابيب تدخل في مرمى الصواريخ الفلسطينية وتتلقى عددا منها ...! وصاروخ آخر يستهدف الكنيست الاسرائيلي في القدس...؟! ثم ثلاثة صواريخ اخرى تستهدف القدس...! اصبحت كل هذه حقائق ملموسة في المشهد...! تشكل كل هذه العناوين تطورا استراتيجيا بالغ الاهمية في مجريات الصراع...! من كان يتوقع ذلك ومن كان يصدق ذلك على الصعيد الفلسطيني...؟! وكذلك، تسمع صافرة الانذار في منطقة "غوش دان-أي منطقة تل ابيب-" كما سمع دوي انفجار بعد ذلك، يذكر ان هذه المرة الاولى التي تطلق فيها صافرات الانذار في تل ابيب منذ حرب الخليج"، ولاول مرة كذلك منذ 20 عاما ايضا يكون نحو اربعة ملايين اسرئيلي تحت رحمة الصواريخ الفلسطينية. الى ذلك، المقاومة الفلسطينية تسقط طائرة حربية صهيونية بصاروخ أرض جو في أجواء مدينة غزة- والعدو ينفي-، وهذه لأول مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وتسقط طائرة استطلاع اخرى فوق غزة- 15 /11 2012". وزير الجبهة الداخلية الإسرائيلي آفي ديختر يصف الحالة المعنوية في اسرائيل بالقاسية ويقول:"إن إسرائيل مرّت بليلة قاسية لم تعهدها من قبل"، ووصف ديختر، في تصريحات لوسائل إعلام إسرائيلية، الوضع في مدينة تل أبيب ب"القاسي"، وذلك بعد إطلاق صفارات الإنذار وسقوط صاروخين على تل أبيب مساء الخميس. وقال فلسطيني، يعمل بإحدى المؤسسات التعليمية في تل أبيب في تصريحات صحفية إن "الإسرائيليين أصيبوا بحالة هستيرية من الرعب والخوف، وبدأ كثير منهم بالبكاء عند سماعهم صفارات الإنذار التي انطلقت في المدينة، وتبع ذلك صوت انفجارات في مكان قريب من مكان عمله"، وتابع "أن قوات كبيرة من الدفاع المدني والإسعاف الإسرائيلية أجبرت الجميع على النزول إلى الملاجئ وسط حالة من الارتباك والرعب الشديدين"، بينما ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية "أن أضرارًا لحقت بشبكة الهاتف المحمول في عدد من المناطق في "تل أبيب"، أدت إلى انقطاع الاتصالات، بعد سقوط صاروخ على منشآت خاصة بتشغيل الهواتف الخلوية". ومن جهته ذكر المحلل العسكري لصحيفة يديعوت احرونوت روي بن يشاي "ان الفلسطينيين استخلصوا الدروس من حرب غزة الأولى والحرب على لبنان، فرغم تواجد الطائرات دون طيار في سماء غزة يجد مركز "حرية النار" وأبراج الرقابة المطورة جدا صعوبة كبيرة في ضرب جميع الخلايا الفلسطينية التي حولت عملية "عامود السحاب" الى حرب استنزاف، وأضاف" ونتيجة لذلك تنجح هذه الفصائل بإطلاق صواريخ غراد وكاتيوشا من عيار 122 ملم رغم تواجد عشرات الطائرات المُسيرة "دون طيار" والطائرات الحربية وعمل وسائل المراقبة المتطورة الأرضية منها والبحرية التي جل همها البحث عن خلايا الإطلاق وتدميرها".، ما اكدته مصادر امنية اسرائيلية بصيغة اخرى قائلة:"ان قصف فصائل غزة لمحيط تل ابيب يعتبر تطورا خطيرا حيث كسرت تلك الفصائل "الطابو" الامني للدولة العبرية"،وقالت"ان حركتي حماس والجهاد تملكان قدرات صاروخية اكبر مما كانت تعتقده اجهزة الامن الاسرائيلية"، ونقلت اذاعة جيش الاحتلال عن مصادر عسكرية قولها انها لا تسطيع ايقاف المعركة الان، وان التراجع يعني ضربة قاصمة لقدرات االجيش ومعنويات سكان الجنوب وهو ما لا يمكن تحمله". فنحن وباعترافاتهم، امام روح قتالية وارادة صمود واستمرار فلسطينية لا تهزم، وكل الحروب الاسرائيلية السابقة على الشعب الفلسطيني، لم تكسر له شوكة ولم تجبره على الاستسلام، ولم تنجح في ان تفرض عليه الشروط والاملاءات الاخضاعية على طريقة جابوتنسكي...! ولذلك فان فلسطين تحتاج الى جانب كل ذلك، في مقدمة ما تحتاجه، ليس الى بيانات الندب والشجب والعجز وانما الى مواقف عربية جادة وحقيقية رسمية / ان امكن/ وشعبية تعزز الروح الفلسطينية، فلا سبيل الى ردع وتعطيل مشاريع الاحتلال، في الاجتياحات والجرائم والمجازر والاستيطان والجدران، الا باعادة صياغة السياسات والمواقف الفلسطينية-العربية اولا...؟!! كلاوزفيتز في غزة....! في مؤلفه الاستراتيجي"علم الحرب"، الذي يدرس في مختلف المدارس والكليات الحربية في العالم، كان الجنرال البروسي"كارل فون كلاوزفيتز" ومعه الصيني "سون زو" وآخرون، قد وضع نظريات الحرب الاستراتيجية، التي يبدو انها باتت خالدة-نسبيا-، وخاصة ما يتعلق منها بالحروب غير المتكافئة التي يتواجه فيها طرف متفوق مدجج بالاسلحة حتى الانياب ومتفوق اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، مع طرف آخر اضعف منه ومحدود التسلح، غير انه يتميز عنه بعناصر الحق والارادة والمعنويات والتعبئة الايديولوجية والاصرار والاقدام والشجاعة في المواجهة، والاستعداد العالي للتضحيات وووضوح الرؤيا"عن بحث ريمون ارون الجزء الأول حول العصر الأوروبي"، ويؤكد كلاوزفيتز أن"ميزان القوى مهم لكن يجب أيضاً الأخذ في الاعتبار العناصر المعنوية، فالاستراتيجية لا تملي بالضرورة على الطرف الضعيف، أن يعتبر أن لا شيء ما يفعله غير الاستسلام، بل العكس تماماً، فالاستراتيجية تملي عليه أن يعوض ضعفه المادي بتعظيم العناصر المعنوية التي يتمتع بها". وانتقالا من النظري الاستراتيجي على لسان كلاوزفيتز، الى الحرب الصهيونية غزة، والذي جرى هناك على ارض القطاع...! فبحسب الباحث الفلسطيني انطوان شلحت- من عرب 48-، فان الجنرال غادي أيزنكوت قائد المنطقة العسكرية الشمالية في الجيش الإسرائيلي هو" أول من تحدّث عن هذه الإستراتيجية"، كما أشار شلحت إلى "أن هذه العقيدة، منبثقة من عقيدة "الجدار الحديدي" التي صاغها زئيف جابوتنسكي زعيم "التيار التنقيحي" في الحركة الصهيونية في عشرينيات القرن الماضي، وتبناها بعده بن غوريون، ومفادها خلق قناعة لدى الفلسطينيين بعدم جدوى التجرؤ على إسرائيل، بجعلهم يدفعون ثمنا باهظا، يحجمون بعده عن مهاجمتها، وهذه هي أسطورة، أو نظرية، الردع الإسرائيلية". وبرأي البروفيسور اليميني "دان شيفتن"، فان العقيدة القتالية التي تبنتها"إسرائيل" في حروبها، تأسّست على ترويع الفلسطينيين، ووأد مقاومتهم، وتكبيدهم ثمنا باهظا بالأرواح والممتلكات، وتتطلب زرع دمار غير قياسي في النقاط والبؤر الحساسة لمطلقي الصواريخ على "إسرائيل"، والهدف ليس اصطياد الصاروخ الأخير، وإنما فرض تغيير جوهري في معادلة الكلفة والجدوى للمقاومة عن طريق رفع عنصر الكلفة بشكل دراماتيكي، وإن ما سيحدد نتائج الحرب، استعداد "إسرائيل" لفعل الأعاجيب بالفلسطينيين خلالها، وبصورة أساسية الرد بشكل منفلت العقال ضد إطلاق الصاروخ الأول بعدها". ولكن الدكتور محمد الهندي يرد على كل ذلك قائلا:"ان هذه منطقة فيها ثقافة وحضارة عريقة شهدت غزوات واجتياحات مختلفة عبر التاريخ ولم يكن أمام هذه الغزوات إلاّ أن تذوب أو ترتد، وإذا لم تعترف إسرائيل بحقوق شعبنا فإن المنطقة ستشهد مزيداً من العنف، وفي النهاية فإن قوانين التاريخ والديمغرافيا ستفرض نفسها على الجميع". وانتقالا الى الاستعدادات والارادة الفلسطينية وقدرة التصدي والتحدي والصمود والنفس الطويل وعدم السماح بالانكسار امام الآلة الحربية الاسرائيلية، فان جملة من المواقف الفلسطينية، تعبر لنا خير تعبير عن قوة العزيمة الفلسطينية التي تعود الى عقود مضت، حيث واجه الفلسطينيون الحروب والمحارق الاسرائيلية بروحية وارادة لا تهزم حتى باعتراف عدد كبير من مفكريهم وباحثيهم ومعلقيهم ...!.
الراحل محمود درويش شاعر فلسطين والعرب، كان قد عبر اعمق تعبير عن"غزة وروحها وصمودها وبطولاتها ومعنوياتها وجدارتها بالحياة" حينما كتب قائلا:"ليست لغزة خيول، ولا طائرات، ولا عصى سحرية، ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا، ومن غزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ذات حلم ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار، ونحن من مواليد الانتظار، والبكاء على الديار، صحيح أن لغزة ظروفًا خاصة، وتقاليد ثورية خاصة، ولكن سرها ليس لغزًا، مقاومتها شعبية متلاحمة، تعرف ماذا تريد "تريد طرد العدو من ثيابها"، مضيفا:"لم تقبل وصاية أحد، ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد، أو بصمة أحد، ولا يهمها كثيرًا أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها، لم تصدق أنها مادة إعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام على وجهها"، مردفا: "قد ينتصر الأعداء على غزة، وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة، قد يقطعون كل أشجارها، قد يكسرون عظامها.. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمون في البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم وستستمر في الانفجار".مختتما:"لا هو موت، ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة".