يستغرب كثيرون كيف يتلاقى "تيار المستقبل"، الذي يدّعي تمثيله شريحة كبرى من المسلمين في لبنان، مع "حزب القوات اللبنانية"؛ الابن الطبيعي للمناخ الانعزالي الذي مثله حزب الكتائب اللبنانية طيلة العقود الماضية، وكان جوهر فكره رفض فكرة العروبة من أساسها، والاغتراب عن المنطقة برمتها، والحلم بالتحول إلى قطعة من كيان وارض "الأم الحنون" (فرنسا الانتداب)، ومن ثم أميركا المعادية لكل توجه ثوري تحرري عربياً، ومنادٍ بوحدة العرب، في حين أن المسلمين في لبنان عموماً، وشريحة من المسيحيين (المعارضين للكتائب)، طالما كانوا في مقدمة رافعي رايات العروبة والسائرين في ركاب مشاريعها الوحدوية. ومما يلفت هذه الأيام، أن سياسياً مثل الناطق باسم "المستقبل"؛ فؤاد السنيورة، عندما يتحدث عن سلاح المقاومة في لبنان، يطلق تعابير و"مصطلحات" كتائبية تماماً، مثل "المغامرة" حيناً، و"التوريط" حيناً آخر والحلول محل الدولة (أي دولة؟) أحياناً، وهي عبارات لا ترد فقط على لسان سامي الجميل هذه الأيام، بل تذكّر بالخطاب الذي كان يصدر عن الراحل بيار الجميل (الجدّ)؛ مؤسس "حزب الكتائب"، قبيل انفجار الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك عن ابنه بشير؛ مؤسس "القوات اللبنانية"، عندما كانا يتحدثان عن المقاومة الفلسطينية وضرورة منع عملها من لبنان، مع فارق لا يمكن تجاهله، وهو أن السنيورة وغيره من رموز "المستقبل" يتناسون أنهم يتحدثون عن حزب لبناني وازن، هو "حزب الله" له فضل التصدي للاحتلال "الإسرائيلي"، ودحره عن أرض لبنان، وله سابقة النصر الكبير على اعتداءات "إسرائيلية"، أبرزها عدوان تموز 2006. كان آل الجميل، وما يزالون، يدّعون العداء ل"إسرائيل"، لكنهم يرفضون انخراط لبنان في أي حرب ضدها.. و"حزب المستقبل" ورئيسه البدل عن ضائع فؤاد السنيورة، ملتزمزن بحرفية هذا الموقف، متناسين أن شعارات "الحرية" و"السيادة" و"الاستقلال" لا تتحقق من دون ثمن غال يجب دفعه. وبنظرة سريعة إلى المرحلة الانتقالية بين أفول الحالة الكتائبية - الجميلية وبداية حضور الحالة الحريرية المستقبلية، نجد أن حالة التسلم والتسليم بين الحالتين بدأت عندما تيقّن الأميركيون وأتباعهم السعوديون بأن مقتل بشير الجميل وفشل شقيقه أمين في فرض اتفاق 17 أيار الاستسلامي مع العدو "الإسرائيلي"، على الشعب اللبناني، كان شهادة وفاة لما سُمّي "المارونية الانعزالية"، فكان القرار الخارجي - الدولي والإقليمي بإحلال "الحريرية السياسية" محل "المارونية السياسية" في إدارة النظام اللبناني وخدمة المشاريع الغربية، وفي مقدمها أمن وسلامة "إسرائيل". جاءت "الحريرية السياسية" وصفة أميركية سعودية لوراثة المارونية السياسية في لبنان، وكل من نظامي الحكم في العراق وسورية، بعد توريط حاكم العراق السابق في حروب إقليمية، ثم بالتخلص منه بعد احتلال العراق، ولا يخفى على أحد مدى الجهد الأميركي والتمويل السعودي الذي فشل في محاولة تنصيب النسخة الحريرية العراقية؛ إياد علاوي، حاكماً على العراق. وعندما فشل الحريري الأب، أو رفض، تنفيذ حرفية هذا المشروع في لبنان، اغتاله أصحاب المشروع، ليحققوا بدمائه ما فشلوا في تحقيقه بوجوده، وإلا لما استطاع الأميركيون وحلفاؤهم في المنطقة نقل شريحة كبرى من المسلمين من الجهة العروبية الثورية المعادية للغرب، إلى التحالف مع "القوات" و"الكتائب"، وغيرهم من غلاة المتطرفين ضد العروبة، وإلى استبدال صورة جمال عبد الناصر بصور الملك عبد الله وجورج بوش. اليوم يراهن سمير جعجع، باعتباره وريثاً للمشروع الكتائبي - البشيري، والساعي، في الحالتين البشيرية والجعجعية، للوصول إلى قصر بعبدا، كوسيلة للسيطرة مجدداً على لبنان، وحسم الصراع التاريخي القائم فيه لمصلحة المشروع التقسييمي الفدرالي، على قاعدة التحالف مع "إسرائيل"، والسير في ركاب المشاريع الأميركية - الأطلسية. وقد كان سميرجعجع صريحاً وصادقاً في تشريحه للعلاقة التي تجمع "قواته" بحلفائه، وتحديداً "تيار المستقبل"، حيث قال: "نحن لم نلتحق بأحد، هم جاؤوا إلينا"، لكنه أخفى النصف الثاني من الحقيقة، وهي أنه أصبح تابعاً للحريرية السياسية، التي تتولى حالياً قيادة المشروع ذاته الذي كان جعجع وقائده بشير الجميل رأس حربته في زمن مضى. ومثلما شكلت المملكة السعودية رافعة قوية لطموحات بشير الجميل في محاولة السيطرة على لبنان، والتخلص من أي وجود مقاوم فيه، تشكل اليوم، باعتبارها أم الحريرية السياسية وملهمتها، مصدر التمويل الأساسي لاستمرارية مشروع سمير جعجع، للوصول إلى بعبدا واستكمال مشروع بشير الجميل. من هنا ترسم حدود الصراع الجاري في لبنان هذه الأيام، وعلى أساسه تحدد المواقف في ما هو مقبل من محطات. الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة