عاشت مصر قرونا طويلة محصورة فى وادى النيل الضيق، وضاق الوادى بسكانه فجارَ السكان على الأرض الزراعية وتورمت المدن والقرى، كما ضاق بفرص التنمية فزادت أعداد العاطلين لتصل إلى حدودها الحرجة وباتت البطالة قنبلة غير موقوتة يمكن أن تنفجر فى أية لحظة. وبدلا من تبنى النظام البائد لرؤية للخروج من الوادى الضيق وإنشاء مناطق تنمية حقيقية تعود بالخير على مصر، مناطق تنمية مكتفية ذاتيا فى فرص العمل والخدمات وتوفر الأرض الرخيصة اللازمة للإسكان اعتمدت سياسات حكومات الحزب الوطنى المتتابعة بشكل أساسى على الاقتراض حتى بلغ الدين الداخلى والخارجى قرابة 700 مليار جنيه، كما اعتمدت هذه السياسات على موارد غير ثابتة كدخل السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين بالخارج. وتهدد ثروات مصر الضياع إما لسوء الإدارة أو الفساد الذى نخر فى عظامها، أو الإهمال وعدم انتفاع شعب مصر بها كنتيجة حتمية لغياب الرؤية الإستراتيجية بحبس مصر فى واديها الضيق الذى لا يزيد عن 6.00% من مساحتها، بدلا من الامتداد فى آفاق مصر الرحبة. إن مصر لن تتجاوز حالة التردى بمشاكلها المتفاقمة داخل الوادى الضيق إلا من خلال رؤية إستراتيجية طويلة المدى تخرج بها من الوادى وتتبنى سياسات ومشروعات إنتاجية وطنية حقيقية فى مختلف المجالات بدلا من الاعتماد على زراعة الأرض المحدودة المتآكلة وما يقوم عليها من صناعات استهلاكية لا تحدث تنمية حقيقية. إن أهم ما يميز الرؤية الإسلامية فى قضية التنمية هو تقوى الله؛ فقد كان علماء الاقتصاد يحددون عناصر الإنتاج فى المال والثروة والإدارة والتنظيم والبشر، ثم عادوا واختصروها فى عنصرين هما الأرض والبشر؛ إذ إن الإنسان هو العنصر الفاعل فى التنمية وهو المستهدف منها، ولكننا نقول إن الإنسان، وهو يقوم بالتنمية، يجب أن يتقى الله ويجب أن يعرف أنه فى معية الله، وأن يكون مؤمنًا بأن الله سبحانه وتعالى ولا يخاف على رزقه. ويأتى هذا ترجمة لنظرية فقيهنا الشيخ العبقرى ابن خلدون عن "العمران البشري" والتى استخلصها من الآية الكريمة (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا(. ***** نحو خطة إستراتيجية للتنمية الشاملة هناك مراحل للتخطيط الإستراتيجى تبدأ بالرؤية الإستراتيجية والرسالة والقيم الحاكمة ثم الغايات الكبرى، يلى ذلك دراسة الوضع الراهن ببيئتيه الداخلية والخارجية من خلال قاعدة معلومات توضح الإمكانات المادية المتاحة وتحديد نقاط القوة والضعف الداخلية والفرص والتهديدات الخارجية. وبتحديد الغايات ودراسات الوضع الراهن يمكن تحديد الفجوة بين الواقع والمستهدف وتحديد الأهداف الإستراتيجية لتجاوز الفجوة وبلوغ الغايات الكبرى، ويلى ذلك تحديد المشروعات ذات الأولوية. فإذا وجدت الخطة الإستراتيجية بمكوناتها السابقة يتم ترجمتها فى خطة تنفيذية تتضمن الأهداف الإستراتيجية ومخرجاتها والأنشطة والإجراءات اللازمة لتحقيق هذه المخرجات ثم تحديد المسئوليات ومؤشرات النجاح والبرنامج الزمنى للتنفيذ والتكلفة التقديرية والتدفقات المالية المطلوبة. ***** الحلم والرسالة أحسب أن رؤيتنا الإستراتيجية- الحلم- إذا جاز لى أن أحلم هى: مصر عاصمة الأمة العربية والإسلامية الموحدة التى تقود العالم لخير البشرية وأن تعيد الحضارة الإسلامية- بمفهومها الحضارى وليس الدينى- لموقعها فى ريادة العالم. وإذا انتقلنا من الحلم إلى الواقع فإننى أحسب أن غايتنا الكبرى- رسالتنا- هى: أن تنهض مصر من كبوتها وأن ترفع معدلات التنمية بها وتخفض نسبة الفقر إلى ما دون مستوياتها العالمية وأن تكون كيانا إقليميا يواجه التكتلات والتحديات الخارجية يحقق أمنها وأمن أمتها داخل حدودها. ***** تصنيف مشروعات التنمية إن التنمية بمفهومها الشامل تعنى التنمية فى كافة مجالاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ويدخل فى إطارها عشرات المشروعات والأبعاد ( البعد الإنسانى - الروحى والإيمانى - الأسرة - الثقافى - البيئى - الصحة - القيمى - العمرانى - الإعلام)، ويمكن تقسيم مشروعات التنمية الشاملة من وجهة نظرى إلى ثلاثة أنواع من المشروعات: 1- مشروعات البنية الأساسية: المياه - الطاقة - الثروة المعدنية - البحث العلمى - البشر. وهى ركائز التنمية الثلاث كما أشرنا: - الأرض (المياه - الطاقة - الثروة المعدنية) - البشر ( التنمية البشرية - البحث العلمى - التعليم والتدريب ) - الإيمان بالله. وفى هذا الإطار علينا أن نعيد بعض المؤسسات البحثية العملاقة إلى سابق عهدها ونرفع يد البيروقراطية والفساد عنها مثل مركز بحوث الصحراء وهيئة المساحة الجيولوجية وغيرها من المراكز والمعاهد البحثية. 2- مشروعات التنمية: الزراعة - الصناعة بأنواعها - التعدين - السياحة 3- مشروعات الخدمات: الإسكان - التعليم - الصحة والعلاج - النقل ***** خرائط مشروعات البنية الأساسية للتنمية لكى نقوم بإعداد خطة إستراتيجية للتنمية الشاملة يجب أن نملك ست خرائط للبنية الأساسية اللازمة للتنمية على كامل مساحة مصر: 1- المخطط العمرانى الحالى. 2- خريطة صلاحيات الأراضى للزراعة توضح الأرض الصالحة للزراعة والظهير الزراعى للمحافظات 3- خريطة المياه الجوفية 4- الخريطة الجيولوجية وأماكن توافر الثروة المعدنية ومواد البناء والمحاجر 5- خريطة إمكانات الطاقة الجديدة والمتجددة 6- الخريطة البيئية لمناطق مصر المختلفة وبتركيب الخرائط السابقة على بعضها البعض يمكن أن نصل لخرائط التنمية القطاعية من صناعة وتعدين وزراعة وسياحة... إلخ، وبهذه الخرائط أو بالخريطة التنموية لمصر يمكن البدء فى تنمية حقيقية لمصر. بموجب الخرائط القطاعية السابقة يمكن مراجعة التقسيم الإدارى لمصر وهل نحن بحاجة إلى تقسيم محافظات مصر طوليا أم عرضيا أم وفقا للخرائط القطاعية؟، بمعنى أن الخريطة التنموية الشاملة يجب أن تسبق التقسيم الإدارى للمحافظات. وفى هذا الإطار وجدت محاولات لخلق محاور تنمية جديدة ولكنها محاولات غير مكتملة وتحتاج إلى مراجعة، ومن بينها: ممر التنمية للدكتور فاروق الباز، مشروع الدكتور ممدوح حمزة، ومن أنضج هذه المشروعات- والذى لم يكتمل أيضا- المشروع الذى أعدته هيئة التخطيط العمرانى "المخطط الإستراتيجى لمصر 2052" والذى ربط العمران بالتنمية، والذى كنا نناقشه مع وزير الإسكان ونائب رئيس الهيئة فى لجنة المشروعات القومية بنقابة المهندسين مساء أول أمس. إن التخطيط للتنمية يجب أن يسبق التخطيط العمرانى وبناء المساكن؛ فالتنمية هى القاطرة والعمران لاحق لها. ***** أولويات المشروعات إن أرض مصر واعدة بثرواتها وخصوبتها ومياهها وشمسها، ومن هنا فإن الخروج من الوادى سيتبعه عشرات بل مئات المشروعات وهنا نأتى لما سبق أن أشرنا إليه فى مراحل التخطيط الإستراتيجى النهائية بتحديد المشروعات ذات الأولوية، ومن هنا يلزم وضع معايير يتم على أساسها تحديد أولويات المشروعات وأقترح هنا للمناقشة: 1- المشروعات الضرورية لتحقيق الأمن القومى المصرى. وهنا يأتى فى الصدارة مشروع تنمية سيناء بثرواتها الجيولوجية والتعدينية والسيول التى يمكن تخزين مياهها خلف سدود موسمية وإمكانيات زراعتها والاستفادة من مواردها لانتقال ملايين السكان اللذين يمكن استيعابهم وتوطينهم بها، كما أنها يجب أن تكون من أولى المناطق المرشحة لإنشاء المجتمعات العمرانية التنموية الجديدة فهى قضية أمن قومى قبل أن تكون قضية تنمية. 2- المشروعات التى تدر عائدا سريعا يمكن أن تساعد فى تمويل المشروعات الأخرى. ويتصدر هذه المشروعات مشروع محور قناة السويس كمحور لوجيستى للتجارة العالمية والذى يمكن أن يدر عائدا لا يقل عن 200 مليار جنيه سنويا فى حين أن عائد القناة الحالى فى حدود 30 مليار جنيه. ويمكن أن تقام عليه أحواض تصنيع وإصلاح السفن بدلا مما يحدث الآن من سحب للسفن لإصلاحها فى أحد موانى البحر المتوسط الأوربية وبدلا من شراء مصر للسفن من ماليزيا ودول شرق آسيا. هذا المحور اللوجيستى يمكن أن يقام عليه صناعات تكميلية وصناعات تعبئة وتغليف وصناعات تجميع وغيرها من الصناعات. ويمكن الانطلاق من هذا المشروع من محور لقناة السويس إلى إقليم قناة السويس الذى يمتد إلى سيناء ومحافظات القناة ومحافظة الشرقية. كما يمكن ربط هذا المحور بمشروع الجسر الذى يربط بين مصر والسعودية والخليج مما يزيد من أهمية تطوير قناة السويس، كما يمكن ربطه بمحاور التنمية فى الصحراء الغربية والتى يستهدف ربطها بالسودان ووسط إفريقيا. 3- المشروعات كثيفة العمالة قليلة رأس المال بما يتناسب مع ظروف مصر بدلا من استيراد المشروعات قليلة العمال كثيفة رأس المال والتى تتناسب مع الدول الغربية. 4- المشروعات ذات العائد الاجتماعى. ويضيف الأستاذ الدكتور محمد بهى عرجون أستاذ هندسة الطيران بهندسة القاهرة فى سلم الأولويات معايير أخرى: 5- المشروعات التى تم تنفيذ أجزاء منها ويلزم استكمالها بمعنى وجود بنية أساسية لها. وهو ما ينطبق أيضا على مشروع تنمية محور قناة السويس حيث يوجد بنية أساسية لمشروع شرق مثلث التفريعة ومشروع شرق خليج السويس. 6- المشروعات التى تستثمر موارد سبق إهدارها. 7- المشروعات التى تحقق اختراقا أو طفرة فى أحد محاور النهضة والتنمية. وبأخذ هذه المعايير فى الاعتبار يمكن تحديد أولويات المشروعات وفقا لخطط زمنية محددة، كما يمكن أن نقوم بتنفيذ هذه المشروعات على التوازى وفقا للموارد والإمكانات المتاحة. ووفقا للأولويات الإسلامية فى الفقه فإن مشروعات التنمية يجب أن تأخذ بالضروريات ثم الحاجيات والتحسينات فما بالنا بالمشروعات الترفية والاستهلاكية؟ إن أمتنا أمة مستهدفة يريد الأعداء اقتلاعها من جذورها وبالتالى فعلى أمتنا التشبث بالأرض والبقاء وبما يعنى التركيز على مشروعات الإنتاج الغذائى والسلاح والدواء والإسكان ومستلزمات الإنتاج المختلفة والمشروعات الضرورية لسد حاجات الإنسان الأساسية. وفى هذا الإطار يقسم الأستاذ الدكتور سيد دسوقى- أستاذ هندسة الطيران بهندسة القاهرة- مستويات التنمية إلى: تنمية البقاء - تنمية النماء - تنمية السبق، ومن هنا فإن تنمية البقاء يجب أن تكون على رأس أولوياتنا أما تنمية السبق فهى نوع من الترف غير المبرر. ***** مستقبل الزراعة وأزمة المياه نظرا لمحدودية الأرض الزراعية والأرض القابلة للاستصلاح ومحدودية المياه، إذ إن مصر أصبحت دون خط الفقر المائى (حوالى 700 متر مكعب مياه / فرد /سنة فى حين ان حد الفقر المائى 1000 متر مكعب مياه / فرد /سنة)، ومن هنا فإن قطاع الزراعة فى خريطة تنمية مصر مرشح للتراجع لحساب الصناعة والتعدين، خاصة وأن تقديرات علماء المياه الجوفيه لمخزون المياه الجوفى متباينة بشكل كبير بين مليارات محدودة من الأمتار المكعبة وتريليونات الأمتار المكعبة مما يستدعى اجتماعهم واتفاقهم على تقديرات متقاربة أو عمل مزيد من الأبحاث لتقديرها بدقة أكبر. ومن هنا فإن برامجنا فى التنمية الزراعية يجب أن تقوم على التنسيق مع السودان الشقيق حيث الأرض الصالحة للزراعة وحيث المياه وحيث التقارب الجغرافى والحضارى بين الشعبين. ويمكن أن تكون المساحة الحدودية بين الدولتين هى البداية والتى يمكن أن توفر إنتاج أكبر واقتصاد أوفر. تردت العلاقات المصرية السودانية المصرية بدرجة كبيرة طوال الثلاثين عاما الماضية بما أدى إلى انفصال جنوبه عن شماله وبما هدد أمن مصر القومى وأمن مصر الحيوى– المائى– حتى أن قناة جونجلى التى كان من المستهدف الانتهاء منها فى ثمانينات القرن الماضى لم تنتهى حتى الآن بما حرم مصر من حوالى 150 مليار متر مكعب طوال هذه المدة، فى وقت نحن فيه فى أمسّ الحاجة لكل نقطة مياه بعد أن تهددنا الخطر وأصبحنا دون خط الفقر المائى، ناهيك عن الوضع الأخطر بتمكن الصهاينة والأمريكان من الجنوب السودانى وتهديد أمن مصر بشكل مباشر. إن التوجه للاعتماد على الذات اقتصاديا يتطلب بالضرورة تكامل الاقتصاديات العربية وخاصة فى مجال الغذاء وإنتاج الحبوب ومع السودان بشكل أخص. ***** إستراتيجيتنا البديلة إن إستراتيجيتنا البديلة فى جانبها الاقتصادى أساسها الاعتماد على الذات: الاعتماد على قوتنا البشرية وعلى مواردنا المحلية- تبنى التكنولوجيا كثيفة العمالة قليلة رأس المال - ترشيد وتطوير القطاع العام بدلا من بيعه- التركيز على المحاصيل الزراعية الإستراتيجية، ووقف كارثة تجريف الأراضى الزراعية. وكما أشرنا فإنه فى ظل ندرة الأرض والمياه فإن مستقبل مصر الاقتصادى مرهون بالتركيز على الانطلاق الصناعى، والصناعات ذات التكنولوجيا الفائقة، التى تضاعف الموارد وتوظف ملايين العاطلين، وهى صناعات المستقبل من يتأخر عن الولوج إليها يتخلف عن الأمم. كل هذا يجب أن يأتى فى ظل رؤية إستراتيجية علمية دقيقة بدلا من التعامل مع قضية التنمية بأسلوب القطعة فتمتلئ حياتنا بالعشوائيات التى تحرم الأجيال القادمة من خير كثير إذا تمت التنمية وفقا لرؤية إستراتيجية تنموية شاملة. إن ثروات مصر التى نهبها نظام الرئيس المخلوع يجب أن نستعيدها ونعض على ما تبقى منها بالنواجذ، ولقد اقترحت فى مقال سابق إضافة مادة للدستور الجديد تنص على "لشعب مصر الحق فى الحفاظ على ثرواتها ومواردها الطبيعية"، لأن هذه الثروة ملك للأجيال القادمة، وستحاسبنا هذه الأجيال، وسيحاسبنا الله إن نحن فرطنا فيها. إن الحرية التى انتزعها شعب مصر العظيم بثورته المباركة فى 25 يناير 2011 يمكن أن تصنع المعجزات إذا عززنا الانتماء بوطننا وشعبنا وقيمنا الحضارية السامية التى أكدت عليها هذه الثورة المجيدة. والحمد لله من قبل ومن بعد الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة