نكتب صباح السبت والجيش اللبناني ما زال يطلق صواريخه نحو مخيم نهر البارد، ولا ندري ماهية تلك الصواريخ ومدى دقة إصابتها وقدرتها على التدمير، إذ نعلم أن الجيش قد تلقى عتاداً جديداً من الولاياتالمتحدة وبعض الدول العربية من أجل إنجاز مهمته التاريخية في مخيم نهر البارد، كما لا ندري إن كانت هذه السطور ستصل إلى القاريء قبل "سقوط المخيم" أم لا، لكن ذلك لا يغير في مسار الرؤية السياسية التي تتبناها.
يبدو أن الذين يعانون من عقدة الهيبة والشرعية في لبنان، بدليل خوفهم من انتخابات مبكرة، يبدو أنهم مازالوا يسعون إلى تثبيت هيبتهم وشرعيتهم من خلال انتصار بائس على تنظيم صغير اسمه «فتح الإسلام» لا يزيد عدد مقاتليه عن بضع مئات في مخيم صغير اسمه نهر البارد، ولا قيمة بعد ذلك لضحايا المعركة من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء، بصرف النظر عمن بقي منهم داخل المخيم، ولا قيمة أيضاً لهدم بيوتهم المتواضعة التي بنوها بعرقهم وبؤسهم ويعيشون فيها منذ عقود.
ما عرض على تنظيم «فتح الإسلام» لم يكن ليقبل بحال، أعني تسليم أنفسهم للجيش اللبناني من أجل محاكمتهم "محاكمة عادلة"، إذ كيف ستثبت التهمة عليهم وكيف ستنفى، وهل ثمة في هذا العالم العربي محاكمات عادلة، لاسيما حين تكون الأجواء مستنفرة ضد فرد ما أو فئة من الفئات؟! ثم ماذا عن عناصر التنظيم الذين لم يتورطوا في المواجهة الأولى مع الجيش، كيف سيعاملون وإلى أين سيرحلون، لاسيما أن من بينهم من لا يمكن ترحيله إلى أي بلد آخر؟!
إنه عرض لا يمكن قبوله من تنظيم من هذا اللون من حيث المبدأ، فكيف حين يكون متأكداً من أن عناصره لم يستهدفوا الجيش اللبناني حتى يعتقلوا ويحاكموا، بل أيضاً لأنه تعرض لخديعة واضحة، فتحت ستار امن الأكاذيب التي يمارسها وليد جنبلاط ومن على شاكلته فيما يعرف بقوى الأكثرية النيابية، أو قوى الرابع عشر من مارس، ومفادها أن مجموعة فتح الإسلام هي منتج سوري لضرب الأمن في لبنان، يراد التعمية على حقيقة أن التنظيم قد حصل على غطاء من تيار المستقبل على أمل استخدامه في سياق الحشد الطائفي ضد الشيعة، ولما رفض ذلك جرى الانقلاب عليه، في حين دخل الأمريكان على الخط عبر التحريض على مجموعة متهمة بتدريب وتصدير المقاتلين إلى العراق.
هناك بالتأكيد عنصر تحريض فلسطيني ما زال يفعل فعله في هذه الأزمة، أعني حركة فتح، التي يمثلها الآن في لبنان عباس زكي وسلطان أبو العينين، وكلاهما يقف في مواجهة الفصائل الأخرى التي يجمع أكثرها على رفض اقتحام المخيم بحجة القضاء على فتح الإسلام، فضلاً عن المشاركة في المعركة (يقال إن أزلام أبو العينين يشاركون فيها إلى جانب الجيش من داخل المخيم)، بينما يتكفل عباس زكي الذي يقدم نفسه ممثلاً لمنظمة التحرير أيضاً بتقديم الغطاء السياسي لما يجري علناً وفي وضح النهار.
يشار هنا إلى أن حركة فتح، تعمل ومنذ مدة لا بأس بها على العودة بقوة إلى المخيمات اللبنانية بقوة "الأكثرية النيابية اللبنانية" المدعومة من واشنطن، مع العلم أنها عادت بالفعل بشكل جيد في الفترة الأخيرة من خلال الأموال التي يجري صرفها على شبان يعانون البطالة في المخيمات، وليس مهماً بالنسبة لكثير منهم ما إذا كان المعلم هو سلطان أبو العينين أو سواه.
هي صفقة بائسة ثمنها سيطرة فتح على المخيمات الفلسطينية في لبنان، أعني فتح بنسختها الجديدة. فتح التي انقلبت على ياسر عرفات بدعم من الأمريكيين والإسرائيليين. فتح التي تقف خلف الانفلات الأمني في غزة وتسعى إلى الانقلاب على الشرعية الفلسطينية، ولا شك أن هذه النسخة لا تعنى بمشاعر الجماهير بقدر عنايتها بوضعها على الأرض، بدليل أن أحداً من بين الفلسطينيين في الداخل والخارج لا يمكن أن يوافق على ما يجري في مخيم نهر البارد بصرف النظر عن موقفه من تنظيم «فتح الإسلام». ويبقى ما يتردد حول صلة ما يجري بخيار التوطين الذي لا تجد فتح، بنسختها الجديدة مرة أخرى، أي خيار سواه سبيلاً لحل مشكلة اللاجئين.
في معركة مخيم نهر البارد ليس ثمة أرباح معتبرة لأحد، لا للبنانيين ولا للفلسطينيين، فخسائر الجيش ستكون كبيرة، تماماً كما هو حال خسائر فتح الإسلام والمدنيين الفلسطينيين، مع العلم أن اللبنانيين الشرفاء لن يشعروا بالكثير من الفخر جراء انتصار من هذا النوع، لاسيما السنّة الذين كانوا على الدوام الأقرب إلى الفلسطينيين ومعاناتهم.
الأسوأ من ذلك هو ما يمكن أن يترتب لاحقاً على المعركة من شرخ بين الفلسطينيين واللبنانيين، ثم ما يمكن أن يترتب عليها الآن أو غداً من أعمال عنف سينفذها شبان إسلاميون من الفلسطينيين، وربما من اللبنانيين أيضاً في مناطق أخرى من لبنان، لاسيما أن هوية فتح الإسلام ليست فلسطينية بالكامل، إذ تندمج في تركيبتها جنسيات كثيرة، من بينها اللبنانية.
من هنا تبدو المعركة برمتها مثيرة للأسى، ليس للفلسطينيين فحسب، وإنما للبنانيين، ولسواهم من العرب والمسلمين، ولا بد تبعاً لذلك من وقف القتال وتراجع حزب ما يسمى الأكثرية عن شروطه المتغطرسة لحل الأزمة. قد تنتهي المعركة خلال يوم أو أيام، وقد تستمر لفترة أطول، لكن الانتصار الذي قد يحققه الجيش اللبناني بدخول المخيم ليس من النوع الذي يستحق الفخر، وهو لذلك لن يمنح أصحابه أية هيبة أو شرعية.