بقلم: صبحي حديدي كُتبت هذه السطور صبيحة انعقاد مؤتمر القمة العربية في العاصمة السعودية، الرياض، أي قبل أن تتحوّل إلي حبر علي ورق معظم، إنْ لم يكن كلّ، مشاريع القرارات التي اتفق وتوافق عليها وزراء الخارجية العرب، وقبل أن يتمّ إفراغها من أيّ مضمون عملي وأية أوالية تطبيق ملموسة. هنالك، مع هذا وذاك، عنصران أساسيان اكتنفا انعقاد القمّة، ولاح أنّ التاريخ يعيد تكرارهما من قبيل السخرية المرّة التي يحدث أحياناً أن تكون ديدن السجلّ التاريخي. العنصر الأوّل هو نفض غبار الزمن عن مبادرة الأمير، الملك اليوم، عبد الله بن عبد العزيز، تماماً كما أطلقها في قمّة بيروت 2002؛ والعنصر الثاني هو الدراما الطريفة التي اعتاد الزعيم الليبي معمّر القذافي علي إخراجها وتمثيلها في توقيت محكم مع اجتماع ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء هذه الأمّة العربية المبتلاة! ومن الخير أن نبدأ من القذافي، وسلسلة تصريحاته إلي قناة الجزيرة القطرية، حيث أعلن أنّ أجندة قمّة الرياض صُنعت في الولاياتالمتحدة، وليبيا قررت أن تقاطعها لأن القادة العرب عبّروا عن استهتارهم في القمة السابقة؛ كما جدّد فلسفته المبتكرة حول ضرورة ترحيل الفلسطينيين من ليبيا، ومن أية أرض تواجدوا فيها، ليذهبوا إلي فلسطين (لا يخبرنا العقيد كيف؟ وهل ستستقبلهم سلطات الاحتلال الإسرائيلية بالورود أم بالرياحين!) لكي لا يُباعوا؛ وأعاد التذكير باقتراحه الشهير حول إقامة دولة ثنائية القومية اسمها إسراطين ، تتكوّن من نصف كلمة إسرائيل ونصف كلمة فلسطين (كما نقول نحن، للإنصاف، وليس العقيد الذي يؤمّن أنّ هذا الوليد الخلاسي يمكن أن يتخلّق من ائتلاف إسرائيل/فلسطين!)... هل غيّرت خمس سنوات (غير عجاف في الواقع، لأنها شهدت مسارعة الولاياتالمتحدة والغرب إلي تبييض صفحة ليبيا والعقيد شخصياً، بعد التخلّي عن برامج التسلّح والقبول بأحكام قضية لوكربي وسداد التعويضات المالية السخية) من أفكار العقيد القذافي، في ما يخصّ المسائل ذاتها؟ بل هل تبدّلت، تطوّرت أو حتي تراجعت، تلك الأفكار عمّا كانت عليه حالها في قمّة الجزائر 2005، مثلاً؟ وهل يليق بهكذا أصحاب فخامة وجلالة وسيادة إلا هذا العميد العقيد الأطول زمناً في الحكم، والأعلي كعباً في الحكمة؟ ذكّرْ، تحثّ الآية القرآنية، علّ الذكري تنفع العباد، وهنا بعض أفكار القذافي قبيل وخلال تلك القمّة: رئيس وزراء الدولة العبرية، آنذاك، أرييل شارون ليس ذلك السفّاح العتيق العريق، بل هو عميل عند الفلسطينيين! والإرهاب إسلامي صرف، ولا إرهاب إلا في بلاد الإسلام، وفي فلسطين والعراق وأفغانستان تحديداً وحصراً... والديمقراطيات العربية والآسيوية والأفريقية (وبينها مملكة أوغندا، مثلاً ساطعاً!) هي الديمقراطيات الحقّة، مقابل الديمقراطيات الدكتاتورية في الدول الغربية حيث الشعوب كأنها كلاب تنبح ... ونحن، أصحاب الفخامة والجلالة، تسقط عنّا الواجبات شرعاً (في ما يخصّ الحرّيات العامة واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية) ما دام الغرب يعتبرنا متخلّفين... واندثار العرب وشيك ما لم ينضمّوا إلي تكتّل الفضاء الأفريقي ... والفلسطينيون، مع رجاء أن لا يزعل خونا محمود عباس ، أغبياء لأنهم لم يقيموا دولة سنة 1948، والإسرائيليون كذلك أغبياء لأنهم لم يضمّوا الضفّة الغربية سنة 1948... وهذا العميد ، صاحب الاختراقات الكبري أعلاه، هو نفسه الزعيم العقيد الذي وصل ذات يوم إلي العاصمة اليوغوسلافية بلغراد، أيّام جوزيف بروز تيتو، ترافقه طائرة خاصة، غير الطائرة الرئاسية بالطبع، تحمل النياق التي سيشرب من لبنها، والفرس المطهمة التي سيدخل بها قاعة قمّة عدم الإنحياز. وهو الذي طرد آلاف الفلسطينيين من جماهيريته العظمي إلي خيام نصبها في الصحراء، ورفض الإعتراف بدولة فلسطينية لأنها تناقض نظريته في دولة إسراطين ، وأسقط أخيراً كلّ أوراق التوت النووية ، وأهدر من ثروات الشعب الليبي المقهور مئات ملايين الدولارات علي مغامراته ومؤامراته ونظرياته. غير أنّ الشعوب العربية ينبغي أن تكون مدينة اليوم، كما كانت مدينة في قمّة الجزائر والحقّ يُقال، للعميد العقيد لأنه كشف الكثير من السيئات والسوآت التي سهر إخوته أصحاب الفخامة والجلالة والسيادة علي إخفائها أو تمويهها أو قلبها رأساً علي عقب. لا أحد منهم كان سيقول لنا: متشكرين، مش عاوزين ديمقراطية! أو: ليس عندنا لوردات لنصنع منهم مجلساً، فهاتوا لنا لوردات! ولا أحد كان سيتجاسر علي الحنين إلي استبداد صدّام حسين هكذا: أرأيتم؟ أيّام صدّام لم يكن الزرقاوي قادراً علي دخول العراق! ومَن ذاك الذي كان سيعلن علي رؤوس الأشهاد: ليس هناك أمريكي أو هندي أو أوروبي فجّر طائرة، وهذه الأفعال محصورة في فلسطين والعراق ؟ وأمّا أخطر ما نجح العميد العقيد في هتكه فهو مصطلح تفعيل مبادرة السلام العربية، المعروفة باسم تجاري مسجّل أكثر شهرة هو مبادرة الأمير عبد الله . وكما لا يعرف أحد اليوم علي وجه الدقة (ما خلا وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، ورئيس وزراء الدولة العبرية إيهود أولمرت، والأمير بندر بن سلطان بنسبة أقلّ، واللواء عمر سليمان بنسبة أقلّ من نظيره السعودي، والشيخ هزاع بن زايد أقلّ من نظيره المصري، ومحمد الذهبي مدير المخابرات الأردنية أقلّ من نظيره الإماراتي...) معني العبارة المفتاح التي ستخيّم علي قمّة الرياض، أي تبنّي المبادرة العربية دون تعديل ، فإننا لم نتمكن حتي الساعة من معرفة المقصود بالمفردة المفتاح التي خيّمت علي قمّة الجزائر، أي تفعيل المبادرة إياها. ولكنّ علي المرء، في غمرة كلّ هذا الجهل والتجهيل، أن يتذكّر جيداً أصل هذه المبادرة، وكيف اتخذت في الأساس صيغة مقترح بسيط وتبسيطي تكشّف في سياق دردشة (لم تكن بريئة، كما برهنت الأيام) بين الأمير السعودي عبد الله والصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، قبل أن تنقلب الدردشة سريعاً إلي مبادرة سلام تهلّل لها الأمم شرقاً وغرباً. لماذا، إذا صدّقنا رواية فريدمان كما نقلها عنه ناحوم برنياع في يديعوت أحرونوت آنذاك، كان مكتب الأمير عبد الله متلهفاً علي نشر مقالة فريدمان، التي تزفّ بشري المبادرة إلي العالم، أكثر بكثير من لهفة الصحافي الأمريكي نفسه؟ ما الذي كانت الرياض تريده حينذاك، وماذا تريد اليوم؟ ما الذي سعي إليه الأمير عبد الله شخصياً، حينذاك واليوم؟ ولأنّ المعطيات لم تتبدّل بين اليوم وآنذاك إلا علي نحو أكثر انحطاطاً في مستوي ومحتوي تبعية الحاكم العربي، وأشدّ كارثية في الوضع العربي الجيو سياسي في فلسطين والعراق ولبنان، فإنّ مفاتيح الإجابة علي الأسئلة السابقة ظلّت سارية المفعول عموماً، أو لم تطرأ عليها تعديلات أخري غير تلك التي تقتضيها متطلبات الحال الطارئة في المشهد الجيو سياسي ذاته، الأمر الذي تشهد عليه مسوّدة البيان الختامي لقمّة الرياض في بنود فلسطين والعراق ولبنان تحديداً. أوّل تلك المفاتيح هو الريبة الغريزية، المبرّرة تماماً، التي تقود إلي القول بأنّ المبادرة كانت موجهة إلي البيت الأبيض أكثر ممّا كانت موجهة إلي أرييل شارون، وأنّ حاجة المملكة العربية السعودية إلي ترميم علاقتها مع الإدارة الأمريكية وتحسين صورتها أمام الرأي العام الأمريكي كانت أشدّ إلحاحاً من رغبة الأمير عبد الله في إطلاق مبادرة سلام لا يمكن أن تحظي بشعبية داخلية، في أوساط مشايخ الوهابية بصفة خاصة. ولا ريب في أنّ تدهور العلاقات الأمريكية السعودية بعد هزّة 11/9 تحوّل إلي ورقة ضاغطة في التوازنات الداخلية التي تحكم علاقات الأمراء السديريين بالأمير عبد الله، وبات حُسن إدارة هذه الورقة معياراً لآفاق انتقال سلس للخلافة من الملك فهد إلي وليّ العهد. صحيح أنّ هذا الضغط بالذات قد انحسر بعد استتباب أمور الخلافة نسبياً، إلا أنه ما يزال قائماً بدرجة تكفي لاعتباره أحد أفضل السياقات الصالحة لتفسير ما يتغيّر سريعاً من موازين القوي الداخلية في المملكة، من نوع صعود بندر بن سلطان في هرم القرار الأمني السعودي، علي حساب هبوط سعود الفيصل وشقيقه تركي، أو انفراد بندر بالتنسيق السرّي مع الولاياتالمتحدة (إليوت أبرامز، في المقام الأوّل) بخصوص طرائق مجابهة ما يُسمّي ب القوس الشيعي . مفتاح آخر يفيد أنّ الأفكار السعودية كانت تقدّم للإدارة الأمريكية تماماً كما تفعل اليوم، سبحان الله! طوق نجاة من نوع ما، يساعد الصقور مثل الحمائم علي السباحة الآمنة في بحر ظلمات الشرق الأوسط: سنة 2002، كانت واشنطن بحاجة إلي نوع من مضيعة الوقت في المنطقة، أو بالأحري اللعب في الوقت الضائع، قبل إكمال الاستعدادات العسكرية والسياسية لغزو العراق؛ وفي سنة 2007، تظلّ واشنطن بحاجة إلي وقت مثيل، ولكن هذه المرّة من أجل تدبّر استراتيجية المخرج من مستنقع العراق، و... استراتيجية افتتاح فصل الحرب ضدّ إيران! وهل ثمة ما هو أفضل من هذه المبادرة السعودية بغية إلهاء الجميع في تصاريف بنودها (غير القابلة للتطبيق، غير المطروحة أصلاً للتطبيق!)، والتشاور حولها، قبيل دفنها حال لجوء رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلي اقتباس عبارة العقيد القذافي: متشكرين، مش عاوزين مبادرة؟ ذلك لأنّ قرارات الأممالمتحدة، و242 بصفة خاصة، لا تشترط حال الغرام التامّ بين الدولة العبرية والدول العربية مقابل الإنسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، ومبدأ الأرض مقابل السلام ، الذي استند إليه مؤتمر مدريد لا ينصّ علي ما تقول به مبادرة عبد الله بن عبد العزيز، أي التطبيع التامّ بين الدولة العبرية والدول العربية كافّة. وفي هذا تكون المملكة قد ذهبت أبعد ممّا ذهبت إليه أيّ مشروعات سلام سابقة، من مبادرة الملك فهد في العام 1981، إلي مفاوضات كامب دافيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، مروراً بمؤتمر مدريد دون سواه. في المقابل، إذْ أنّ التانغو يحتاج إلي راقصَين اثنين، لا يلوح البتة أنّ شارون سنة 2002 كان أكثر حماسة لمراقصة المبادرة العربية من خليفته الحالي، المثخن بجراح حرب فاشلة ضدّ لبنان، المتكسرة في جسده نصال الفضائح المالية علي نصال المحاق السياسي المضطرد. فما الذي سيجبر الدولة العبرية علي مقايضة غرام أصحاب السيادة والفخامة والجلالة (والغرام هنا هو الترجمة الأكثر حرارة لبند التطبيع الشامل والكامل الذي تقترحه المبادرة)، بالانسحاب الشامل والكامل إلي حدود 1967 (بما في ذلك القدس، والجولان، و... مزارع شبعا)؟ وأيّ غرام هذا الذي لن يكرّر إلا التجربة الإسرائيلية العاثرة الخاسرة في التطبيع مع مصر والأردن، أي التطبيع مع الأنظمة الحاكمة، والعزلة التامّة عن الشعوب، بل الحرج الدائم مع الأنظمة والمقت الدائم من جانب الشعوب؟ الرقصة/المبادرة هي مزيد من اللعب في الوقت الضائع، ومزيد من ذرّ الرماد في العيون، ومزيد من الضحك علي اللحي، ومزيد من النفخ في قربة مثقوبة... حتي آخر ما تتيحه بلاغة اللغة العربية من مجاز لتفضيح مبادرة لم تبدأ إلا جوفاء زائفة، وليس لها ان تنتهي إلا إلي مستقرّ وحيد لائق بها: مزبلة التاريخ، حيث تُمسخ الوقائع المكرورة إلي مهزلة!