من أسوأ القيم التى ترعرعت فى ظل ثورة 23 يوليو العسكرية الطابع والقيادة، قيمة احتقار ورفض العمل السياسى والأهلى بعيدا عن السلطات الرسمية، وإعلاء فكرة إدارة المجتمع بنفس منطق إدارة الثكنة، الذى أوضحه المشير طنطاوى حين قال لأحدالسياسيين بمنتهى التلقائية (أمضيت فى الجيش عشرات السنين لم أسمع أحدا يقول لى: لا قط!!). وهى كلمة تلخص معنى القول بمنطق إدارة الثكنة، رغم الفارق النوعى بين جمال عبد الناصر كقائد وصاحب رؤية وثورة، والمشير الذى لا يعدو أن يكون موظفا فى السلك العسكرى كرئيسه وقائده وقدوته: حسنى مبارك. فقامت سلطة يوليو بحل الأحزاب السياسية دون أن تفرق بين أحزاب موالية للقصر والإنجليز وبين أحزاب وطنية. ولم يستعن عبد الناصر فى موقع الوزارة من خارج الضباط إلا بشخصيات تتسم بعدم الجماهيرية حتى وإن كانت وطنية. ولم يحل الإخوان المسلمين فى البداية باعتبارها جمعية وليست حزبا، ولكن جاء الدور عليهم. وفى عام 1954 لم يعد هناك سوى الضباط الأحرار، وتعددت تجارب العمل السياسى من خلال تنظيم واحد حتى الاتحاد الاشتراكى، وأصبح العمل السياسى والشعبى الشرعى يقترن بهذا الجهاز الواحد، لذلك كنا كشباب وطنى مستقل فى أواخر الستينيات ننشىء تنظيمات ومجموعات سرية. وعندما شعر النظام بتهاوى تجربة الاتحاد الاشتراكى بعد هزيمة 1967، عالج المشكلة بالمزيد من تعقيدها (وداونى بالتى كانت هى الداء) فأنشأ من أعلى ما سماه التنظيم الطليعى كتنظيم سرى داخل الاتحاد الاشتراكى، على أساس أن يكون هذا التنظيم الجديد أكثر ثورية ونقاءا ويكون هو العمود الفقرى لحماية النظام. وتحول الموضوع إلى مهزلة، فتحويل تنظيم سياسى رسمى إلى السرية حوله إلى جهاز مخابرات! وكنت إذا أخطأت وحدثت طالبا زميلا لى عن خطة للتظاهر وكان دون أن أدرى عضوا فى التنظيم الطليعى يبلغ عنى فورا! وكان هذا النشاط الأمنى الاستخبارى هو النشاط الأبرز لهذا التنظيم. وكان اتحاد طلاب كليتنا (الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة) هو الذى أفلت بكامله من التنظيم الطليعى فأعلن التنظيم الحرب علينا رغم أننا لن نكن نحاربه لأننا لم نكن نعرف أصلا أن هناك تنظيم اسمه التنظيم الطليعى!! وكان شعراوى جمعة وزير الداخلية الذى كان اسمه يثير الرعب، هو الذى يستدعى بنفسه المحيطين بى ليجندهم بالتنظيم ويغدق عليهم جوائز وحوافز مادية! وكان ذلك يتم فى اللقاء الأول أى لم يكن هناك فكر ولا مبادىء ولا يحزنون!! وهكذا تحولت والمخلصون معى إلى الحرب العلنية على التنظيم الطليعى. وتفاصيل ذلك مكانها فى المذكرات الشخصية ولكن ما أردت الإشارة إليه هو آخر طبعة فى أواخر العهد الناصرى وبداية العهد الساداتى فى تأسيس العمل السياسى المشروع، على أساس ليس الالتصاق بالأجهزة الأمنية فحسب بل بتلقى الأوامر منها باعتبارها القيادة، بل تلقى الأوامر منها فى كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأسلوب فى البناء يؤدى إلى تنظيم شديد الهشاشة، وهذا ما ثبت حيث لم يصمد حين نفخ فيه السادات وألغاه تماما. وفى مذكرات الشيخ حافظ سلامة عن المقاومة فى السويس عام 1973 تجربة مهمة جدا عن انهيار الأجهزة السياسية الرسمية أمام العدو الصهيونى إلى حد الاستسلام ورفع الراية البيضاء، وكيف كان هذا هو سبب مبادرته بتأسيس المقاومة الشعبية السياسية والعسكرية، بل وقيادته لعملية فك الحصار عن الجيش الثالث فى سيناء. وأصحابنا فى المخابرات العامة يريدون العودة بنا إلى هذه الحقبة الكئيبة من العمل السياسى المؤمم والفاشل، من خلال تعددية حزبية زائفة، تكون كل أطرافها تحت السيطرة. وهذه نقطة التقاء خطيرة مع التصورات الحقيقية للنظام الأمريكى عن المستقبل القريب لمصر. فكما تقول تحليلات منشورة، فإن الإسرائيليين والأمريكيين يفضلون استمرار المجلس العسكرى لأطول فترة ممكنة فى الحكم، لحين ترتيب الأوضاع فى مصر، لأن الإسراع بتسليم السلطة سيؤدى إلى وصول قوى إسلامية ومناوئة للمصالح الصهيونية الأمريكية. وقد خبروا العسكر فى عهد مبارك وتعاونوا معهم ويعرفون كيف يتفاهمون معهم، وهم أى الأمريكيون مشغولون فى المدى القريب بتثبيت كامب ديفيد والعسكر يطمئنونهم فى هذا المجال. وقد برهن العسكريون أنهم يوثق بهم، ففيما عدا وقف تصدير الغاز لإسرائيل فإنهم استجابوا للمطالب الأمريكية الأساسية. المهم أنه بعد انهيار تجربة التنظيم الطليعى كواحدة من أفشل تجارب التنظيمات الحكومية، تم طرح فكرة التعدد الحزبى بتحويل الاتحاد الاشتراكى إلى 3 منابر. ثم تعددت الأحزاب. واستهدفت أجهزة الأمن السيطرة عليها جميعا من الداخل، وقد تم ذلك بصورة زاحفة تدريجية واختلفت فى معدلاتها من حزب لآخر. ولكنها وصلت فى نهاية عهد مبارك إلى سيطرة شبه كاملة على معظم الأحزاب، أما حزب العمل فلأنه استعصى عليهم فلم يكن له من مصير إلا التجميد وإغلاق الصحيفة، وعدم الاكتفاء بحبس رئيس تحريرها وعدد من المحررين. وقد كانت مشكلات حزب العمل الأساسية بسبب رفضه لفكرة الاختراق الأمنى لصفوفه أى استقلاليته الفكرية والسياسية والتنظيمية، خاصة وقد ارتبطت هذه الاستقلالية بمواقف جذرية على الصعيد الوطنى والقومى والإسلامى، وكان فتح أبوابه للتيارات الإسلامية على أساس الاتفاق الفكرى والعقائدى فى الأصول، وكانت حملاته الشرسة على الفساد والمفسدين، كلها أسباب إضافية كى يضيق النظام ذرعا به. وكانت مشكلة النظام الأولى مع حزب العمل هى استقلاليته فقد كان الاختراق وسيلة لمعالجة مختلف الأمور الأخرى. وكانت الانشقاقات المتوالية فى حزب العمل، مليئة بالعناصر الأمنية وإن كانت تجرف معها بعض العناصر المضللة أو المختلفة فعلا حول هذه النقطة أو تلك، وقد كنت أرى فيها تطهيرا للحزب من الخبث، ولكن غرف عمليات الأمن كانت تدرك هذه المخاطر التطهيرية فتدفع بعض العناصر المنشقة من جديد للعودة إلى الحزب بحجة أنها اكتشفت الصواب! وربما يلوم القارىء على حزب العمل أنه لم يحصن نفسه بصورة كافية من مثل هذه الانشقاقات أو الاختراقات, وهذا ما سأتناوله فى مقال قادم فتجربة حزب العمل ليست فوق مستوى التقييم والنقد، ولكن لا أريد أن أقطع سياق التحليل الخاص بمخططات أجهزة الأمن لتقويض الأحزاب. بعد أحداث واقعة سليمان خاطر الذى قتل عددا من الإسرائيليين فى سيناء، ووقوف حزب العمل بقوة جانبه إلى حد الاعتصام بالأزهر وإلى حد قيام الأمن بالاعتداء على الأستاذ إبراهيم شكرى رئيس الحزب وعلى كاتب هذه السطور داخل الجامع الأزهر، بعد هذه الأحداث التى جرت فى أواخر 1985 وأوائل 1986، كنت فى زيارة لإحدى الصحف القومية والتقيت مصادفة بصحفى معروف عنه ارتباطه بالأجهزة الأمنية العسكرية (مراسل عسكرى) ودار بيننا حوار حول ما يتعرض له حزب العمل من أعمال عدائية من قبل السلطات وقال لى هذا الصحفى: "إن مشكلة حزب العمل أنه لا يخضع لقواعد اللعبة السياسية أو لا يدركها، ألا ترى أداء خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع؟ إن هذا الرجل يعرف تماما ويلتزم بقواعد اللعبة الحزبية". ومن خلال الممارسة يمكن أن نقول إن قواعد اللعبة لكى يستمر الحزب الشرعى على قيد الحياة هى: أولا: لا يتعرض لرأس النظام، أما رئيس الوزراء والوزراء فهم مستباحون بدرجات متفاوتة. ثانيا: عدم النزول للشارع والدعوة للتظاهر بل حتى المؤتمرات فى السرادقات مكروهة وهى محرمة بدون إذن الأمن. ثالثا: ممارسة النشاط الحزبى والسياسى والجماهيرى داخل المقرات. وقد تعرض حزب العمل وتعرضت شخصيا لكثير من المضايقات والاعتداءات والاعتقالات بسبب الخروج عن قواعد اللعبة، وقد كتبت مرارا من قبل أننا نعرف قواعد اللعبة ونخرقها عن عمد، ومهمتنا أن نحول مسرحية العمل الحزبى إلى ممارسة حقيقية وهذا يتطلب تقديم تضحيات. وبالفعل فلم يتوقف حزب العمل عن التأثير فى الحياة السياسية حتى وهو فى مرحلة التجميد اللاقانونى. بل كان أكثر تأثيرا من كثير من الأحزاب غير المجمدة والتى تصدر صحفا منتظمة! فى الانشقاق الأول عام 1989 كانت أجهزة الأمن تتصل بالمنشقين وتدعوهم للاستمرار فى الانشقاق والاستيلاء على أحد مقرات الحزب كمقدمة لحصولهم على الشرعية. بينما كان المقصود هو وضع الحزب تحت حالة من الإزعاج المستمر. وفى الانشقاق المفتعل عام 2000 الذى صمم لتجميد الحزب ووقف الجريدة، تم استخدام ولأول مرة بوضوح عناصر لها علاقة معروفة بالمخابرات العامة لتفرض حلولا المقصود بها إحداث انقلاب فى قيادة الحزب، وإلغاء نتيجة الانتخابات الشرعية التى جرت فى المؤتمر العام السابع 1999. وعندما رفضنا هذه الحلول استمر تجميد الحزب ووقف جريدة الشعب رغم صدور أحكام قضائية توجب صدورها الفورى. وفى وقت لاحق تم وضع حراسة سياسية بوليسية على مقر الحزب الرئيسى (ولا نقول حراسة قضائية) قام بها ضابط متقاعد من القوات المسلحة وكان يستدعى الشرطة لمنع دخول قيادات وأعضاء الحزب. وكان يقوى مركزه بالحديث عن علاقته الوثيقة بعمر سليمان. وكنا قد توصلنا من خبراتنا المتعددة إلى عدم الدخول فى صراعات لا جدوى منها حول المقرات، وأنشأنا مقرا جديدا داخل المركز العربى للدراسات بالإضافة لبيوتنا الشخصية. ورغم تجميد الحزب فى مايو 2000، ومع استمرار جهاد الحزب لم يتوقف أمن الدولة عن استدعاء وتجنيد شباب وأعضاء الحزب أو على الأقل إصابتهم بالذعر لإبعادهم عن الحزب (كأن يسمعوا أصوات المتعرضين للتعذيب، أو بتعذيبهم مباشرة). أما المخابرات العامة (فرع الأمن القومى) فقد واصلت بهمة ونشاط عمليات الترغيب والترهيب لتجنيد عناصر من حزب العمل. وقد كانوا يستخدمون أسلوبا لطيفا لإراحة الضمير فيقولون أنهم شديدو العداء لأمريكا وإسرائيل, بل وحتى لمبارك نفسه، وكانوا يسمحون للمجندين أن يهاجموا مبارك. وكانوا يقولون أيضا إنهم إسلاميون حتى النخاع ثم أنشأوا موقعا على الإنترنت يبايع عمر سليمان (والآن يبايع طنطاوى) وفى نفس الوقت يدعون أنهم أعضاء فى حزب العمل. وطريقتهم فى التجنيد لا تختلف كثيرا عن طريقة شعراوى جمعة فى التنظيم الطليعى فهى ترتبط بالمنافع وتحسين مستوى المعيشة مع الاحتفاظ بلقب مناضل. أسر لى أحد قيادات الحزب الشريفة أن أحد عناصر الأمن القومى اتصل به لضمه للجهاز وأنه قال له إنه يمكن أن يمارس نفس قناعاته وآرائه كما يمارسها ولكن مع تحسن فى أحواله المعيشية وأنه لا يجوز له أن يستمر يعيش فى نفس الحارة والحى الشعبى البائس طوال هذه السنين، ولكن زميلنا الشريف رفض العرض. ولكنهم لم يكفوا عن مطاردته حتى الآن! والجهاز ربما لا يدفع أموالا بصورة مباشرة ولكنه يوفر فرص عمل فى مؤسسات حقيقية موجودة فى السوق تدفع مرتبات مجزية. أو يسهل عمليات استثمار أو تجارة.. إلخ. وخلال سنوات التجميد أبلغت أكثر من مرة أننى يجب أن أحزم أمرى وأعلن مبايعتى للجهاز، بمعنى تلقى الأوامر منه بصورة صريحة، وإما سيتم تدمير حزب العمل أو سحبه منى، وكان ردى ثابتا برفض هذه الرسائل من حيث المبدأ، وبأننى أعمل لوجه الله وسأظل أعمل حتى وإن كنت وحدى. والطريف أن جهاز الأمن القومى (الفرع الداخلى للمخابرات العامة) استغل اعتقالى فى موضوع زيارتى لغزة، وشن الهجوم الذى تصور أنه الهجوم النهائى للاستيلاء على الحزب، ولكن النتيجة النهائية كانت فشلا ذريعا، تم تتويجه بقيام ثورة 25 يناير!! فدور حزب العمل ودورى الشخصى فى هذا الإطار، بين يدى أقدار الله ولا يملك أحد مهما بلغ عتوه، أن يمنعه أو يقلل منه. وبدلا من العودة للحق قاموا بآخر طبعة انشقاقية بشخص انقطعت علاقته بحزب العمل منذ 8 سنوات، يمثل التزاوج بين الجهازين (أمن الدولة والمخابرات)، وأنصار هذا الانشقاق الجديد يظهرون الآن فى الفضائيات لتأييد المجلس العسكرى، وهم بذلك احترقوا فى عالم السياسة والعالم الجماهيرى لأنهم يفعلون ذلك فى لحظة هبوط أسهم المجلس العسكرى، ويكشفون بأنفسهم أنهم عناصر مزيفة لا تمت لحزب العمل بصلة. وكنا بعد قيام الثورة قد أرسلنا خطابا للأهرام لإعادة طباعة وتوزيع جريدة الشعب وفقا لأحكام القضاء ووفقا للعقد المبرم مع الأهرام، وقال الأهرام إن الأمر يتطلب موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولكن موافقة السيد المجلس لم تأت حتى الآن. ولكن فى الأثناء تم الاتفاق مع الجمهورية على التوزيع والطباعة. وحدث فعلا أن طبعت الجمهورية ووزعت عدة أعداد. وعلمنا باتصال رتبة كبيرة من وزارة الداخلية بالجمهورية لوقف الطباعة والتوزيع. وبالفعل قالت الجمهورية أن شخصا يدعى أنه رئيس حزب العمل أنذرهم بوقف طباعة الشعب وأنهم استجابوا خوفا منه!! وتم إيقاف الجريدة فى 16 رمضان الماضى. وقد لاحظ الجهازان (أمن الدولة والمخابرات) أننا فى حزب العمل وأثناء إعادة تنشيط البناء الحزبى لا نقبل عودة العناصر المكشوفة لنا التى تنتمى إليهما. وكانت المخابرات قد تصورت أن حزب العمل قد أصبح فى متناول اليد، وبالتالى تتصرف معه بروح الانتقام، كما يحدث فى عالم المخابرات فحين تعجز عن تجنيد شخص فإنك تدمره!! وهذا مثال على خطورة إدخال أساليب المخابرات فى العمل السياسى. ولكننا سنواصل طريقنا الذى أمرنا الله فى السير فيه.. سبيل الله والوطن وفقا للأعمار المقدرة لنا، وسنعيد بناء وتأسيس الحزب من جديد. ونقول لكل أجهزة الأمن، خاصة ذات الخلفية العسكرية لأنها هى ذات اليد العليا الآن، لابد أن تكفوا عن إفساد الحياة السياسية والحزبية والإعلامية. ولكن كيف؟ هذا يحتاج لحديث آخر. [email protected]