السياسة عِلم وفن؛ وإنَّ خير ما ينجبانه، عند اقترانهما الذي لا بد منه، هو ذاك النمط من المطالب السياسية المسمَّى "المطلب الانتقالي". وهذا المطلب ليس للتلبية والتحقُّق، فأهميته السياسية العملية إنما تكمن في كونه جِسرا نَعْبُر من خلاله إلى الهدف النهائي. ومن الخواص الجوهرية ل "المطلب الانتقالي" أن يكون "سهلا ممتنِعا"، فهو صغير بسيط بريء، يحظى قبوله بإجماع، أو بشبه إجماع، يُظْهِر صاحبه على أنه معتدِل مرن؛ ولكن يتعذَّر على الخصم قبوله حتى إذا رفضه، ولا مناص له من رفضه، استنفد "المطلب" أغراضه، وتذلَّلت، بالتالي، عقبة كبيرة من الطريق المؤدِّية إلى الهدف النهائي. "حزب الله" لم يُعْلِن، وليس مدعوا إلى أن يُعْلِن، أنَّ احتفاظه بسلاحه، وبكل ما يمكِّنه من أن يظل قوة مقاومة إلى أن تنتفي أسبابها "العميقة"، هو الهدف الأهم الذي ينبغي له بلوغه عبر خوضه للحرب التي شنتها إسرائيل عليه، أو الولاياتالمتحدة عبر آلة الحرب الإسرائيلية. "حزب الله" اليوم يوشك أن يُلْحِق هزيمة عسكرية سياسية إستراتيجية بإسرائيل على أن تُفْهَم هزيمتها فهما "نسبيا"، فإصابة الجيش الإسرائيلي بالعجز عن الإتيان بنتائج عسكرية ميدانية يمكن استثمارها سياسيا بما يسمح بإنجاز الهدف المشترَك الأعظم، والذي للولايات المتحدة حصة الأسد منه هذه المرَّة.
هذا العجز سيُتَرْجَم ب "تنازل إسرائيلي" يَسْتَهْدِف، في المقام الأول، إفقاد "حزب الله" مبرِّر احتفاظه بالسلاح، واستمساكه بالمقاومة شكلا أو نمطا لوجوده السياسي، أو تعريته من قسم كبير من غطائه اللبناني الشعبي والسياسي إذا ما أصرَّ على رفض الاستخذاء للبند الخاص به من قرار مجلس الأمن الرقم 1559.
وقوام هذا "التنازل" إفراج إسرائيل عن كل الأسرى اللبنانيين لديها، وإنهاء احتلالها لمزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وتخليها عن مطلب، أو شرط، التجريد "الفوري" ل "الحزب" من سلاحه، على أن يقترن هذا التخلي بقرار يُصْدِرَه مجلس الأمن الدولي، يُلْزِم "الحزب"، وتلتزم بموجبه حكومة السنيورة التي هي في قَلْبها حكومة قوى الرابع عشر من آذار، إبعاد مقاتليه وأسلحتهم وكل ما يمت بصلة إلى وجوده العسكري والقتالي إلى شمال نهر الليطاني، وربما إلى شمال نهر الأولي.
ومع تفريغ المنطقة الجنوبية تلك من مقاتلي وأسلحة "حزب الله"، تنتشر القوة الدولية "القتالية" الجديدة، بموجب قرار مجلس الأمن الجديد، حتى "الخط الأزرق"، الذي يُعدَّل بما يسمح بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وإنْ لم يؤدِّ هذا الإنهاء إلى بسط فوري للسيادة اللبنانية على المزارع والتلال.
ولسوف تَحتضن تلك القوة الدولية قوة للجيش اللبناني، وتقوم بتأهيلها بما يمكِّنها من أن تُنفِّذ بالتعاون معها البند الخاص ب "حزب الله" من قرار مجلس الأمن الرقم 1559 بدءاً بمناطق الجنوب اللبناني. وهذا التعاون سنرى نسخة منه على طول حدود لبنان مع سورية بدعوى منع وصول أسلحة وصواريخ وذخيرة إلى "حزب الله" من سورية، أو عبر الأراضي السورية.
هنا تكمن أهمية أن يصوغ "حزب الله" في ذكاء "مطالب انتقالية" من قبيل أن يتضمن قرار مجلس الأمن المرتقب بندا يُلْزِم إسرائيل التوقُّف عن كل خرق لسيادة لبنان، جوا وبحرا وأرضا، ويلتزم "المجلس" بموجبه أن يقف من كل اعتداء إسرائيلي على لبنان مستقبلا موقفا يستند إلى "الفصل السابع" من ميثاق الأممالمتحدة، كما يلتزم رفض التوطين حلا لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.. ومن قبيل أن تعوِّض إسرائيل والولاياتالمتحدة لبنان كل ما ألحقته به آلة الحرب الإسرائيلية من خسائر، وأن تنتشر القوة الدولية على جانبي الحدود اللبنانية الإسرائيلية مع رفض انتشارها على حدود لبنان مع سورية، وأن يتولى الجيش اللبناني فحسب السيطرة على كل منطقة في الجنوب يُنهي "حزب الله" وجوده العسكري فيها، على أن يتدرج هذا الجيش في بسط سيطرته.
و"المطالب الانتقالية"، كما قلنا، إنما تكمن أهميتها السياسية العملية ليس في تحقُّقها وإنما في تذليلها العقبات من الطريق المؤدِّية إلى الهدف الأعظم وهو أن يظل "حزب الله" محتفظا بإنجازه الأهم وهو المقاومة، وجودا وسلاحا، فهنا، وهنا فحسب، يكمن المعنى الأهم للنصر. وهنا، وهنا فحسب، لا يعود "النصر" من النمط الذي يربح فيه لبنان شبعا ليخسر ذاته!