في غمرة الفشل الذريع الذي تواجهه إدارة جورج بوش في العراق وهجوم الكونجرس على “استراتيجيته الجديدة”، وبالتزامن مع الإخفاقات المتزايدة في أفغانستان، بل ومع الخوف من تورط أمريكي جديد في الصومال، كشفت عنه مفاوضات السفير الأمريكي في نيروبي مع قائد المحاكم الإسلامية شريف شيخ أحمد، مضافاً إلى ما تواجهه الأطراف الأخرى المعنية من أوضاع، سواء حكومة إيهود أولمرت التي تواجه متاعب واتهامات ومخاطر تهدد بقاءها، أو ما يحمله الخلاف الفلسطيني المتفاقم والذي أوصل حركتي (فتح) و(حماس) إلى الصدام المسلح المتكرر... وسط ذلك كله تنشط وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس وتخرج اللجنة الرباعية المكلفة بمتابعة “عملية السلام في الشرق الأوسط” من الثلاجة، لتعقد اجتماعا وصف بأنه أهم اجتماعات اللجنة منذ تشكيلها، ولتعيد الحديث عن خطة “خريطة الطريق”، وعن “الدولة الفلسطينية المستقلة قابلة للحياة”! ألا يثير ذلك كله الريبة والشكوك في النشاط الأمريكي المفاجئ، ويفرض التساؤل عن أغراضه الحقيقية؟ لا شك أن أي تحرك أمريكي، وخصوصا في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني- “الإسرائيلي”، يثير فينا الريبة والشكوك لأن واشنطن لم تكن يوما وسيطاً محايداً أو غير منحاز لصالح الصهاينة في هذا الصراع. وإذا تذكرنا المخططات الأمريكية في المنطقة ونشاطها المتواصل منذ غزو العراق واحتلاله، نتأكد من أن هذا التحرك الأمريكي الجديد لا ينفصل عن تلك المخططات، ونتأكد بالتالي أنه ليس مقصودا منه “تحريك عملية السلام في الشرق الأوسط” بقدر ما هو مقصود منه تنشيط المؤامرة الأمريكية الجارية ضد الشعوب العربية ودول المنطقة، وهنا تصبح عملية التحريك هذه مجرد غطاء لا يستر ما تحته، بل ويشير إلى اشتداد الهجمة على الشعوب والبلدان العربية قبل أن تنتهي ولاية بوش الثانية التي أوشكت على النفاد.
وحتى لا نظل في العموميات، وحتى نتأكد من صحة ما نقول لنتوقف قليلا عند بعض ما خرج به اجتماع “اللجنة الرباعية”، لنختبر كيف تريد واشنطن “تحريك عملية السلام”. لقد شدد بيان اللجنة مجددا على “شروط الرباعية الثلاثة وهي الاعتراف ب”إسرائيل” وبالاتفاقيات الموقعة معها ونبذ العنف” ليمكن قبول الحكومة الفلسطينية والسماح باستئناف تقديم المساعدات لها، علماً بأن المساعدات المختلفة، مادية وعسكرية، يتزايد تقديمها لفريق الرئاسة ومحمود عباس. إن ذلك يعني، أولا، أن اللجنة تستمر في الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، باسم الاستمرار في حصار هذه الحكومة المرفوضة من جانب اللجنة والدول الممثلة لها. ويعني، ثانيا، أن هذه اللجنة ودولها تقف إلى جانب طرف فلسطيني ضد طرف فلسطيني آخر فتكرس الانقسام الفلسطيني وتفاقم مخاطره وتصب الزيت على نار الخلاف الفلسطيني المشتعلة، وتدفع الفلسطينيين بالفعل ليس إلى الاقتتال بل إلى الحرب الأهلية.
ويؤكد هذا المنحى “إشادة اللجنة بالجهود الأمريكية لتحريك عملية السلام”، فما هي تلك الجهود وهل تتعارض مع ما سبق قوله عن مخططات وأغراض واشنطن في المنطقة؟ لقد تحدثت رايس عن الاجتماع المنتظر الذي سيعقد بحضورها بين محمود عباس وإيهود أولمرت باعتباره الخطوة الأولى في جهود التحريك، وقالت إنه يهدف إلى البحث في ما يسمى “قضايا الوضع النهائي- أي قضايا الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين”، وذلك لمعرفة “الصورة التي ستكون عليها الدولة الفلسطينية المستقلة”. فجأة تراجعت رايس عن “مرحلة المفاوضات” وقفزت إلى ضرورة الاتفاق على قضايا الوضع النهائي، في وقت توقفت فيه المفاوضات منذ ست سنوات، ولم يتم التزام الحكومات “الإسرائيلية” المتعاقبة بفتح معبر، ولا التزمت بما أقدمت عليه في خطوة أحادية في غزة، لتتم العودة بعد ذلك إلى تطبيق “خريطة الطريق”!
وهنا لا بد من طرح السؤال: إلى أي “خريطة طريق” ستكون العودة للمفاوضات؟ بالتأكيد لا بد أن رايس تتحدث عن خريطة شارون التي وافق بوش على ال 14 تحفظا التي وضعها شارون عليها، وعن “الدولة الفلسطينية” التي ستكون “قابلة للحياة” على أساس ما قاله بوش من ضرورة “أخذ الوقائع الجديدة في الاعتبار” والضمانات التي أعطاها لشارون بهذا الخصوص، أي إدخال المستوطنات في الحدود الجديدة(!) أما القدس واللاجئون فتتركهما اللجنة ورايس ليتفق عليهما أولمرت وعباس!
تبقى مسألة الربط بين مخططات واشنطن في المنطقة وهذا التحرك من جهة، والربط بين هذا التحرك وما يجري في قطاع غزة من جهة أخرى، لتتضح لنا صورة التحرك الأمريكي الجديد وأهدافه التآمرية.
بالنسبة للمسألة الأولى، تريد واشنطن أن تقدم لحلف “المعتدلين العرب” غطاء وهمياً طالما لجأت إليه كلما نوت تنفيذ مؤامرة من مؤامراتها في المنطقة، ليساعدها في ورطتها المستمرة في العراق، ومواجهتها الجارية مع إيران. وبالنسبة للمسألة الثانية، تريد واشنطن أن تزيد الضغط على الفلسطينيين، على الفريق الرافض للاستسلام موحية له بأن عباس وفريقه على وشك القبول رسميا بالمعروض عليه، وكذلك تشجيع فريق عباس على حسم المعركة مع (حماس) بالقوة إن أراد التوصل إلى اتفاق مع “الإسرائيليين”، ثم قبول بنوده.
إن التحرك الأمريكي الأخير استحقاق خطير، وهو يتم بغطاء دولي باسم “الرباعية الدولية”، وهدفه ليس تحريك ما يسمى “عملية السلام في الشرق الأوسط” بل تنشيط متقدم للمؤامرة الجارية على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وعلى القوى الوطنية الفلسطينية أن تعد نفسها لمواجهة هذا الاستحقاق من خلال توحيد صفوفها أولا، وإلا فستندم على ما ستظهره من تقاعس وخذلان للشعب وللقضية.