المصريون بالرياض يدلون بأصواتهم في جولة الإعادة لانتخابات مجلس النواب 2025    جامعة القاهرة الأهلية تواصل تنفيذ برامجها التدريبية والعملية بمعامل الكيمياء والفيزياء ب"هندسة الشيخ زايد"    مجمع إعلام دمياط يطلق حملة "حمايتهم واجبنا" لتوفير بيئة آمنة للأطفال    اسعار الخضروات اليوم الإثنين 15ديسمبر 2025 فى اسواق المنيا    بدء أعمال تكريك وتعميق مدخل ميناء البرلس البحري والمجرى الملاحي    إنجاز عالمي للموانئ المصرية.. كامل الوزير يتسلم شهادة «جينيس» لميناء السخنة كأعمق حوض ميناء مُنشأ على اليابسة بعمق 19 مترًا    محافظ كفر الشيخ يعلن بدء أعمال تكريك ميناء البرلس    البورصة تواصل ارتفاعها بمنتصف التعاملات مدفوعة بمشتريات محلية وأجنبية    الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات على 9 جهات تدعم أسطول الظل الروسي    سفارة البحرين بالقاهرة تقيم حفل استقبال بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني    تنظيم داعش يعلن مسئوليته عن هجوم استهدف دورية تابعة لقوات الأمن السورية في إدلب    خبر في الجول - الأهلي يبدأ المفاوضات مع حامد حمدان وبتروجت    على رأسها المغرب.. تعرف على منتخبات المجموعة الأولى بأمم أفريقيا 2025    تطورات أزمة أرض أكتوبر، هل يستقيل مجلس الزمالك؟    إحالة تشكيل عصابي بتهمة استغلال الأطفال في أعمال التسول والنشل بالقاهرة للمحاكمة    الأرصاد تحذر هذه المحافظات من أمطار خلال ساعات وتتوقع وصولها إلى القاهرة    ضبط مزارع يضع كلابا صغيرة فى أجولة ويضربها بعصا ويلقيها بمصرف فى الغربية    رئيس الأوبرا ينعى الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق    رئيس جامعة القاهرة يصدر قرارات بتعيين وتجديد تعيين 14 رئيسًا لمجالس الأقسام العلمية بطب قصر العيني    وزارة الصحة تعلن الانتهاء من إجراءات تسجيل لقاح الانفلونزا للتصنيع المحلى    فيتش تشيد بجهود الحكومة المصرية في دعم الرعاية الصحية وتعزيز الحماية للفئات الأكثر احتياجًا    بالفيديو.. الأوقاف: كل نشاط للوزارة يهدف إلى مكافحة كل أشكال التطرف    وزير الخارجية: مصر تدعم الدور المضطلع به البرلمان العربى    ضبط سائق نقل اصطدم بسيارة وفر هاربًا    ضبط محطة وقود غير مرخصة داخل مصنع بمدينة السادات    تعليم القليوبية يحسم توزيع رؤساء لجان امتحانات الشهادة الإعدادية والتغطية الصحية    القبض على المتهمين بقتل تاجر ماشية في البحيرة    وزير قطاع الأعمال: التوافق مع آلية حدود الكربون الأوروبية يسهم في تعزيز الصادرات المصرية للأسواق الخارجية    الرقابة المالية تنضم إلى فريق دولي تابع للمنظمة الدولية لمراقبي التأمين    غياب عادل إمام عن حضور جنازة شقيقته بمسجد الشرطة وحضور أحمد السعدنى    وزير الزراعة يسلم جوائز مركز "البحوث الزراعية" الثلاثة للفائزين    "الوزراء" يستعرض تفاصيل الخطة الحكومية لتطوير المنطقة المحيطة بالقلعة وأهم التحديات    المنوفية تنهى استعداداتها لانطلاق جولة الإعادة للمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    تمكين ذوي الهمم يبدأ بالتواصل... تدريب موظفي الحكومة على لغة الإشارة    مخالفة للقانون الدولي الإنساني ..قرار عسكري إسرائيلي بهدم 25 مبنى في مخيم نور شمس شرق طولكرم    دار الكتب والوثائق القومية تنعى وزير الثقافة الأسبق محمد صابر عرب    وزيرة التضامن: إطلاق جائزتي الدكتور أحمد خليفة و"باحث المستقبل" باسم الدكتورة حكمت أبو زيد    "حقوق المرأة في التشريعات المصرية" ندوة توعوية بجامعة بنها    "فورين أفيرز": واشنطن تعيش وهم الطائرات بدون طيار مما يفقدها تفوقها الضئيل على الصين    التحقيقات الأولية . ابن روب وميشيل راينر المشتبه به الرئيسى فى حادث مقتلهما بلوس أنجلوس    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 15-12-2025 في محافظة قنا    غدًا انطلاق اختبارات اختيار كوادر مدرسة الإمام الطيب لحفظ القرآن الكريم وتجويده    شيكابالا ينشر فيديو تكريمه من رابطة جماهير الزمالك في قطر    انطلاق اجتماعات الاتحاد الأفريقي لكرة السلة في مصر    استشاري ينصح بتناول الشاي المغلي وليس الكشري أو الفتلة حفاظا على الصحة    الاثنين 15 سبتمبر 2025.. أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    كيف أرشد الإسلام لأهمية اختيار الصديق؟.. الأزهر للفتوى يوضح    الأزهر يدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف تجمعًا لأستراليين يهود ويؤكد رفضه الكامل لاستهداف المدنيين    ذكرى رحيل نبيل الحلفاوي.. رحلة فنان مثقف من خشبة المسرح إلى ذاكرة الدراما المصرية    جائزة ساويرس الثقافية تعلن عن القوائم القصيرة لشباب الأدباء وكتاب السيناريو    إصابة نجم ريال مدريد تعكر صفو العودة للانتصارات    فيتامين سي ودعم المناعة.. ما دوره الحقيقي في الوقاية وكيف نحصل على أقصى فائدة منه؟‬    الحماية تسيطر على حريق نشب بعقار في الهرم    حُسن الخاتمة.. مفتش تموين يلقى ربه ساجدًا في صلاة العشاء بالإسماعيلية    وفد من لجنة الصحة بمقاطعة هوبي الصينية في زيارة رسمية لمستشفى القصر العيني    مرشح اليمين المتطرف يفوز بالانتخابات الرئاسية في تشيلي    محمد صلاح يوجه رسالة للمصريين من خلال ابنته "كيان" قبل أمم إفريقيا    كابال ينهي سلسلة 5 تعادلات.. يوفتنوس ينتصر على بولونيا في ريناتو دالارا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإعلام الصادق الذى تحدث عنه "السيسى"
بقلم: أيمن الصياد
نشر في الشعب يوم 30 - 10 - 2016

ريد إعلاما «صادقا».. هكذا سمعنا "السيسى" يقول في جلسة، عن الإعلام "والصحافة"، لم يدع إليها نقيب "الصحفيين"(!)
نريد إعلاما "صادقا". قال "السيسى". ولا أحسب أن هناك من يختلف على ذلك. ولكن ماذا نقصد، ويقصد "السيسى" "بالإعلام الصادق"؟ أحسب أن هذا هو السؤال الأهم لكي نضع كلام "السيسى" في سياقه. وأحسب أن علينا أولا أن نتفق على "التعريف"، مما يستلزم بالتالي أن نتوقف أولا لنسأل: هل ما نسمعه ونقرأه في هذا الشكل من الإعلام، (الذي نعرف جميعا كيف ولماذا صارت له الهيمنة"منفردا" على ساعات الإرسال وعقول الناس) إعلاما صادقا؟
هل كان الإعلام مثلا صادقا حين حاول إقناعنا بأن البحرية المصرية أسرت قائد الأسطول السادس الأمريكي؟ أو أن الطائرة الروسية جرى تفجيرها بقنبلة وضعت في مطار تركي؟ أو أن الإخوان هم الذين أسقطوا الاتحاد السوفييتي. وأضاعوا الأندلس(!).
هل كان الإعلام "الموجه" صادقا أو مهنيا حين حاول أن يبيع للناس وهم الجهاز السحري لعلاج الإيدز وفيروس سي؟.
هل كان الإعلام "صادقا" حين نقل عن مسئولين رسميين أن حصيلة مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي وصلت إلى "175 مليار دولار" (الأهرام 16 مارس 2015)؟ وهل كان صادقا فيما نقله عن مسئولين "رسميين" أيضا عن ارتفاع إيرادات قناة السويس (بالمخالفة لبيانات "رسمية" للبنك المركزي المصري)؟.
هل كان الإعلام صادقا حين قال لنا قبل عام كامل (أكتوبر 2015) أن حسن مالك يخفي في بيته"نصف مليار دولار"، وأنه كان السبب في ارتفاع سعر العملة الخضراء؟ ألم يكن الأكثر "صدقا" أن ينبه الإعلام أصحاب القرار إلى الأسباب الأكثر منطقية، وإلى السياسات والقرارات التي يعرف الاقتصاديون ما فعلته باحتياطي العملات الصعبة مما أدى في النهاية إلى ما صرنا إليه؟
هل كان الإعلام صادقا حين زف إلينا "نقلا عن أجهزة الدولة" بشرى التخلص (قتلا) مما قالوا إنها العصابة التي قتلت الباحث الإيطالي جوليو ريجيني؟ وهل يتحمل الإعلام في هذه الحال مسئولية كذب التصريحات "الرسمية".
هل يمكن للإعلام أن يكون "صادقا"، إذا صمت حين طلب منه "ألا يتحدث ثانية" في مسألة هي من صميم الأمن القومي لهذا البلد، ولأجياله القادمة. فيمتنع عن التذكير بحقيقة أن كل ما يمكن إسرائيل من أن تصبح لها اليد الطولى في المنطقة لن يكون أبدا في صالح "الأمن القومي" المصري. وأن فقدان السيادة "نظريا" على مضايق تيران (بغض النظر عن المعاهدات الحالية، أكرر: "الحالية"، وعن الأسباب والمبررات والوثائق، فضلا عن اعتبارات الأخوة العزيزة المقدرة) يحتاج، من زاوية الأمن القومي (الذي هو أمن الأشقاء أيضا) إعادة نظر.
هل كان الإعلام صادقا حين زيف "بسذاجة مفضوحة" تغريدة لرجل بقامة "محمد البرادعي" بهدف تشويه صورته واغتياله معنويا؟ (لمن نسي، فالرجل، تتفق أو تختلف معه كان أحد أركان 30 يونيو، وكان نائبا لرئيس الجمهورية بعد الثالث من يوليو).
هل كان الإعلام صادقا حين حاول أن يبيع للبسطاء النظرية "الرسمية" للمؤامرة على مصر. فلا يتحرج من الحديث "الاستراتيجي" عن "مجلس لإدارة العالم"، يخطط لما يجري في مصر، بما فيها الكوارث الطبيعية. وينسب لدمية تلفزيونية توجيه رسائل بالشفرة إلى مرتكبي الجرائم الإرهابية؟
هل كان الإعلام "صادقا" حين لا يكف "محللوه الاستراتيجيون" عن الترويج لمؤامرة غربية على مصر، تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، في حين لا يكف السيسى عن لقاء المسئولين الأمريكيين (بمن فيهم مدير المخابرات المركزية الأمريكية)، ولا يكف متحدثه الرسمي عن التأكيد على العلاقات "الاستراتيجية" الراسخة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي حين تبيع فرنسا "الغربية" الميسترال، وطائرات الرافال إلى مصر.
باختصار.. هل كان الإعلام صادقا حين كان أداة "استراتيجية" لغسل الأدمغة، وللقيام بأكبر عملية تزييف وعي في التاريخ؟.
ثم، قبل ذلك وبعده، هل كان "صادقا" حين عمد "قاصدا" إلى تخوين كل صوت "مختلف"؟.
…………
"نريد إعلاما صادقًا" .. هكذا يقول السيسى. ولكن ماذا نقصد، ويقصد السيسى"بالإعلام الصادق"؟ ربما كان علينا أولا أن نتفق على "التعريف"
يبقى أن ما ذكر عاليه ليس أكثر من أمثلة / أسئلة لا تكتمل إجاباتها إلا إذا عرفنا، (ونحن نعرف) تضاريس الخريطة الإعلامية. وإلا إذا تذكرنا، (ونحن نذكر) من بقي على الشاشة؟ ومن رحل أو أجبر على الرحيل عنها؟
الحاصل أنه كما أسأنا إلى الدين بتسييسه، عرفنا "تسييس الإعلام" بمعنى استخدامه كأداة للبروباجندا السياسية، لا لإخبار الناس بالحقيقة، كما يستلزم "الصدق"، وكما هي وظيفته "الحقيقية".. هناك من فعل ذلك قبل الثلاثين من يونيو وبعده، لا أستثني أحدا. ولكن الدولة بحكم أنها الدولة، وبحكم ما يعرفه أهل المهنة تتحمل المسئولية الأولى. إذ لم تعد تخفي عن أحد "تضاريس الخريطة".
***
نريد إعلاما "صادقا"؟ هكذا سمعنا، ومع هذا نتفق. ولكن هل تريد الدولة حقا من الإعلام أن يكون صادقا؟
ألم يكن الإعلام صادقا حين عرض هموم الناس، على لسان "سائق توك توك" أو ربة منزل .. فكانت النتيجة أن "ذهب" المذيع إلى إجازة؟
ألم يكن الإعلام مهنيا يوم نشر تحقيقا عن "جهات سيادية لا تدفع ضرائب موظفيها" (الوطن: 11 مارس 2015)، فكانت النتيجة بدلا من تأكيد أو نفي "موثق" لما نشرته الصحيفة أن صدرت التعليمات بوقف طباعتها حتى جرى حذف التحقيق؟
ألم يكن ضابط القوات المسلحة السابق مهندس يحيى حسين عبدالهادي "صادقا" في مقالاته التي مُنع بعضها من النشر في الأهرام، (أو لم يرد عليها أحد) لأنها تتحدث عن مخالفات دستورية "رئاسية"، أو تنتقد التعديلات القانونية التي اعتبرها، ومعه كثيرون تفتح الباب واسعا للفساد والفاسدين؟
ثم.. هل يمكن أن يكون الإعلام صادقا، مهما حاول حسنو النية في غياب قانون "عصري" لتداول المعلومات، وفي ظل ثقافة للحجب المعلوماتي تنتمي إلى زمن "ممنوع الاقتراب والتصوير"، غير مدركة إلى أننا صرنا في زمن Google Earth؟
***
نريد إعلاما "صادقا"، كما يقول السيسى. ونحن نتفق مع ما "قاله" السيسى.
ولكن، هل من الممكن أن يكون إعلام الصوت الواحد إعلاما صادقا؟
أرجو أن يكون هناك من يقرأ في التاريخ فيحكي للرئيس حكاية "البرافدا"؛ الجريدة السوفييتية الشهيرة.
"برافدا" بالروسية تعني الحقيقة. وهي كانت في حينه رمزا لإعلام الصوت الواحد. فهل كانت"برافدا / الحقيقة" تقول الحقيقة؟.
الكل يعرف الآن الإجابة. ومن، مخدرا بالشعارات لم يعترف بها في حينه، أفاقته بالضرورة ضربات المعاول تهدم سور برلين في مثل تلك الأيام من خريف 1989 إعلانا عن انهيار تجربة / إمبراطورية الاتحاد السوفييتي الشمولية، أو بالأحرى إعلانا عن "الحقيقة" التي أخفتها "البرافدا" لما يقرب من نصف عمرها الذي وصل إلى ثمانية عقود، وهي ببساطة أن الأفكار العظيمة (مثل أفكار كارل ماركس) تتبخر حتما على أرض الواقع الساخنة، حين يظن النظام الحاكم أنه وحده يملك "الحقيقة". إذ ساعتها، يفسح النقد اللازم مكانه للدعاية الكاذبة، فلا يدرك المسئولون أخطاءهم. ومع انتفاء حرية التعبير تختفي الشفافية، فينتعش الفساد، ورويدا رويدا، وفي ظل مانشتات البرافدا البراقة"المتفائلة"، ينمو عفن الأوليجاركيا متمكنا من مفاصل النظام، الذي كسليمان (عليه السلام) لا يشعر أهله بموته إلا ودابة الأرض قد أكلت منسأته.
نعود إلى السؤال: هل من الممكن أن يكون إعلام الصوت الواحد (الذي تحبه هذه النوعية من النظم) إعلاما صادقا؟
"برافدا" بالروسية تعني الحقيقة. فهل كانت جريدة "برافدا / الحقيقة" تقول الحقيقة؟
الإجابة عرفها العالم "قاطعة" حين انهار الاتحاد السوفييتي رغم كل ما كانت تشيعه جريدته "الحقيقة / البرافدا" من تفاؤل.
والإجابة عرفناها نحن "مؤلمة" مرتين:
الأولى في التاسع من يونيو 1967 حين اكتشف عبدالناصر أنه "مثلنا" لم يكن يعرف "الحقيقة"، فخرج علينا، شجاعا يصارحنا بالهزيمة، رغم إعلامه المخدر المتفائل الذي كان يستقي أخباره عن إسقاطنا لطائرات العدو، وعن اقترابنا من تل أبيب من البيانات "الرسمية" للقوات المسلحة.
وعرفناها ثانية حين سقطت عاصمة الرشيد في التاسع من أبريل 2003 رغم كل سخرية سعيد الصحاف من "العلوج" الذين سيتجرعون العلقم.
السؤال إذن، بحكم تجارب التاريخ القريب ضروري ومُلح: هل من الممكن أن يكون إعلام الصوت الواحد، الذي جربناه، وجربه غيرنا إعلاما "صادقا"، كما يرجو السيسى؟
قد يبدو السؤال نظريا، ولكنه يصبح مقلقا ومؤرقا حين ندرك ما نعرفه جميعا ونخفيه جميعا من خطوات "ناجحة" تستهدف سيطرة الدولة (أو قل احتكارها مهما تعددت اللافتات) على مفاصل الإعلام في مصر. فهل هناك حقا من يبحث عن إعلام صادق(!)
***
يبقى على الهامش، ومما يستدعيه ما نسمعه ونقرأه يوميا هذه الأيام أننا نتفق طبعا مع الرئيس في أن إعلاما يتماهي مع ما يظنه سياسة دولة، فيتطاول على رموز هذه الدولة "الشقيقة" أو تلك يتسبب قطعا "كما قال الرئيس" في مشكلات كنا في غنى عنها. ولكن، هل كان ذلك ليحدث لولا ما استقر في الأذهان هنا وهناك من أن إعلام هذه الدولة أو تلك لا يتمتع باستقلال "حقيقي"، وبالتالي فخطابه محسوب على الدولة. وإلا فقولوا لي بربكم. هل سمعتم يوما عن أزمة بين فرنسا وألمانيا على سبيل المثال بسبب مقال أو مانشيت لجريدة ألمانية أو فرنسية؟
في العالم الذي يعرف معنى استقلال الصحافة، وحيث لا يحتاجون إلى السفر إلى شرم الشيخ لإعادة اختراع العجلة، لا نسمع عن شيء من ذلك. بل يعرف المتابعون أن الصحف الفرنسية عندما نشرت صورا "عارية الصدر" لدوقة كمبريدج (زوجة ولي العهد البريطاني القادم) لم تحدث ثمة أزمة بين البلدين (رغم حرب المائة عام)، بل اقتصر الأمر على دعوى قضائية رفعها الزوجان البريطانيان على مصور "الباباراتزي" والصحيفة الفرنسية، لا أكثر ولا أقل. ففي تلك المجتمعات لن نسمع أبدا مثل ما نسمعه في عالمنا العربي من تضرر العلاقات بسبب "الحملات الإعلامية"، كما لا تعرف البرقيات الدبلوماسية عبارات من قبيل "المطالبة بإيقاف تلك الحملات". لماذا؟ لأن هذا ببساطة معنى أن يكون الإعلام "مستقلا".
***
في التحليل النهائي، الإعلام ابن مجتمعه، كما أنه "ابن لنظامه السياسي".. فلا تستغربوا
"نريد إعلاما صادقا".. هكذا يقول السيسى. بل ربما هكذا يقول كل رئيس. ولكن هل تريد الدولة "حقا" إعلاما صادقا؟
قد يكون من المثير أن صدامي (العلني) مع الإخوان حول الدور الواجب للإعلام، كان أنهم يريدونه تنمويا توعويا يقف وراء الدولة، ويعمل على بناء المواطن الصالح (بالضبط كما أسمع الآن لا فارق) وكنت أذكرهم يومها بمثل ما يبدو أننا للأسف بحاجة إلى التذكير به الآن من أن دور الإعلام هو الإخبار بالحقيقة، أيا ما كانت هذه الحقيقة. دور الإعلام، كما تعلمنا في الكتب، ومن تجارب مجتمعات تقدمت أن "يكشف" ما تحاول القوى الحاكمة أن تخفيه. فيتمكن الناس (أصحاب البلد) أن يحاسبوا ويسائلوا. وهذا، على سبيل المثال ما فعله "الصحفي" سيمور هيرش عندما فضح جرائم الجيش الأمريكي في فيتنام، فكانت تحقيقاته أحد أسباب نهاية الحرب. كما كان هذا ما فعله أيضا عندما كشف في "النيويوركر" العريقة عن فظائع سجن أبوغريب العراقي، فأحيل الجنود المسئولون إلى المحاكمة. كما أن هذا ما كان قد فعله أيضا "صحفيا الواشنطن بوست" بوب وودوارد ومايكل برنشتاين عندما فضحا جريمة تجسس حزب الرئيس على معارضيه (فضيحة ووترجيت). فأُرغم الرئيس (ريتشارد نيكسون) على الاستقالة.
أما في عالمنا البعيد عن هذا كله، فقد كان أن جربنا أو حاولنا بعد الخامس والعشرين من يناير شيئا من هذا الإعلام "الصادق" بتحرره من سيطرة هذا أو ذاك، قبل أن تمتد الأصابع في الظلام فتجهض التجربة كلها. ويكون الإعلام "الكاذب" للأسف أحد أدوات الإجهاض، كما تقول تفاصيل القصة التي ما عادت تخفي على أحد.
…………
أذكر أن الأستاذ هيكل كان ينبهني، كلما انتقدت أمامه ما يراه المصريون على الشاشات، إلى «أن الإعلام ابن مجتمعه". وأظن أن هذا صحيح تماما: فالإعلام في التحليل النهائي هو ابن مجتمعه، والأهم أنه ابن نظامه السياسي. كما قرأنا ونقرأ في تجارب العالم حولنا. حين يكون النظام استبداديا أحاديا، يكون لدينا إعلاما دعائيا أحاديا. أما في حالة النظام الصحي الذي يقوم على التعددية واحترام الرأي الآخر. ويدرك قيمة الإعلام المهني الذي يسأل ويحاسب، يصبح لدينا إعلاما مهنيا صحيا. أو بلغة السيد الرئيس، يصبح لدينا "إعلاما صادقا".
***
وبعد..
إذا أردنا "الصدق" الذي تحدث عنه السيسى، فعلينا صادقين أن نعترف بأن الإعلام "الموجه" الذي جربناه على مدى عامين أو ثلاثة نجح أولا في غسل عقول الناس. ونجح ثانيا في تشويه كل ما هو جميل. ونجح ثالثا في أن يفقد مصداقيته، وأن ينصرف عنه "الشباب"؛ الذين عقدنا لهم مؤتمرا في شرم الشيخ. وأخشى (وأرجو أن أكون مخطئا) أن هناك من استهدف كل ذلك ليصبح في النهاية من السهل إصدار قرارات تقيد حرية الرأي والتعبير، أو تسعى لتقييد مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى إغلاقها. غير مدرك أننا جميعا من سيدفع الثمن. بل وستكون "الدولة" كما قلت قبل ذلك أكثر من مرة "أول الخاسرين". إذ من نافلة القول أنه لا يوجد دولة قوية بلا حكم رشيد، ولا يوجد حكم رشيد بلا شفافية ومحاسبة. ولا يوجد شفافية ومحاسبة بلا إعلام حر يكشف ما يحاول الفاسدون إخفاءه. أو ينبه "من يظنون أنهم يحسنون صنعا" إلى عاقبة ما يصنعون. ساعتها فقط سيكون الإعلام "صادقا" كما يطلب السيسى.
لسنا بصدد إعادة اختراع العجلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.