بعد خطاب رأس النظام المصرى بغيط العنب مباشرة، وحديثه عن خفض أسعار السلع بغض النظر عن سعر الدولار، بدأ سعر الصرف بالسوق الموازية يرتفع تدريجيا، حتى حقق معدلات غير مسبوقة تاريخيا باقترابه من 16 جنيه للدولار، الأمر الذى انعكس على زيادة أسعار الكثير من السلع، بعد أن أصبحت أسعار الخدمات والسلع ترتبط بسعر الصرف بالسوق الموازية. ولم تعد ترتبط بالسعر الرسمى، باعتباره سعرا غير حقيقى، فى ضوء عدم قيام البنوك بالتعامل به، حيث لا يتاح للجميع الحصول على الدولار بهذا السعر حتى يكون حقيقيا، حين تضيف البنوك عليه علاوة تدبير عملة، للقطاعات التى توفر لها الدولار بنسبة مئوية، كما تفرض رسوما متعددة على التعامل بكروت الائتمان بالخارج، مما يعنى التعامل عمليا على سعر صرف يختلف كثيرا عن السعر الرسمى المعلن. ورغم الاتفاع لسعر الصرف من حوالى 12.5 جنيه للدولار ليقترب من ال 16 جنيه خلال أسابيع قليلة، لم يجد المصريون من يخرج إليهم من المسؤلين ليوضح لهم الأمور، وماذا ستفعل الحكومة لمواجهة هذه الزيادة المستمرة بسعر صرف الدولار بالسوق السوداء، بعد فشل الحملات على شركات الصرافة وتشديد العقوبات على المتعاملين بالعملات خارج البنوك، ومن قبلها اتهام قيادات إخوانية بالتلاعب بالدولار مازالت وراء القضبان. وجاء هذا الصمت الرسمى رغم مطالبة رأس النظام فى خطابه بغيط العنب كبار المسؤلين بالخروج الى الناس، والتحدث إليهم عن المشاكل الاقتصادية الصعبة التى تواجهنا، وبينما الدهشة من غياب رسمى شامل للتفسير، والتحدث عن الخطوات المقبلة من جانب الحكومة للتصدى لتلك الارتفاعات التى تؤثر سلبيا على مستوى معيشة غالبية المواطنين. انفراد الجنرال بالإعلام والجماهير تذكرت ما حدث معى حين كنت مجندا فى أوائل الثمانينات، حين قال قائد اللواء الذى كنت مجندا به بعد انتهاء كلمته بالطابور "حد عنده سؤال؟"، ورفعت يدى بالسؤال، وبعد انتهاء الطابور وجدت لوما شديدا من جانب قائد الكتيبة التى كنت بها على قيامى بسؤال اللواء، وعندما بررت له بأنه هو الذى طلب ذلك، قال لى إن العرف قد جرى بينهم على أن يقول القائد تلك المقولة فى نهاية حديثه، ليرد الجميع فى صوت واحد مرتفع "شكرا يا فندم". وخلال مشوارى الصحفى وجدت أمرا مشابها خلال التعامل مع قيادات الداخلية بعدم السماح للرتب الأقل الحديث فى حضرة الرتب الأكبر، حتى أننى حضرت مؤتمرا لخطة مرورية أعدها ضابط من الرتب المتوسطة، لكن من تولى الحديث كان اللواء ذو الرتبة الأعلى، ولم يتم السماح لمن أعد الخطة بالحديث والذى جلس منكمشا. وهكذا يمكن تفسير الصمت من قبل رئيس الوزراء ووزراء المجموعة الاقتصادية عن التصريح بشيء لطمأنة الناس، ويعزز ذلك ما لاقاه محافظ البنك المركزى من لوم عندما تحدث أكثر من مرة عن سعر الصرف، وتوجيه وسائل الإعلام الاتهام له بأن أحاديثه كانت سببا فى تدهور قيمة الجنيه. وهناك تراث وزارى فى هذا الصدد، أذكر منه عندما التقيت قبل سنوات عديدة بوزيرة الشؤن الاجتماعية آمال عثمان فى ندوة، ووجدتها فرصة للاتفاق على إجراء حوار صحفى معها حيث كانت لا تتعامل مع الصحفيين بالمرة، ولما طلبت منها موعدا لحوار أحالتنى لمديرة الإعلام بالوزارة المرافقة لها وانصرفت. وعندما طلبت الموعد من مديرة الإعلام قالت لى إن الوزيرة لا تدلى بأحاديث، وأفهمتنى بشكل ودى أن هذا الأمر كان سببا رئيسيا لطول فترة بقاءها بالوزارة، تاركة المجال بذكاء لحرم الرئيس للحديث عن القضايا الاجتماعية، لتنفرد حرم الرئيس بأضواء كاميرات التصوير وحدها. الاحتفاظ والشراء انتظارا للخفض ونعود للقضية الأساسية وهى هذا الارتفاع المستمر فى سعر الصرف بالسوق الموازية وأسبابه، وتجيب مقولة أحد رجال الأعمال مباشرة حين قال أن المشكلة هى نقص الدولار وليس سعره، فنحن مستعدون لدفع قيمة أكبر لشرائه، وهو ما يشبه ما يقوله المواطن العادى الذى لا يجد السكر، حين يقول إنه مستعد لدفع قيمة أكبر لشراء السكر والمهم لديه أن يجده. وتعالوا نتناول أمر الدولار بشىء من التوضيح، فرقم الاحتياطى بالمركزى بنهاية شهر سبتمبر الماضى بلغ 19.5 مليار دولار، بزيادة 3 مليار عن شهر أغسطس، وتبين أن الثلاثة مليارات جاءت بواقع 2 مليار وديعة من السعودية، و1 مليار دولار قرض من البنك الدولى، أى أنها زيادة من الاقتراض وليست من الموارد الأساسية للنقد الأجنبى. ومؤخرا قال مسؤل بالبنك المركزى دون أن يفصح عن اسمه أنه تم الوفاء بطلب الصندوق باقتراض ما بين 5 - 6 مليار دولار، حتى تتم مناقشة الطلب المصرى للاقتراض منه، ومعنى ذلك أن الاحتياطى قد بلغ حاليا ما بين 21.5 – 22.5 مليار دولار، بما يؤهله للتدخل بالسوق لخفض قيمة الجنيه حسب رؤية البعض، بينما يتمسك آخرون بمقولة محافظ البنك المركزى أنه لن يتدخل بالسوق قبل بلوغ الاحتياطى 25 مليار دولار، وفى مناسبة أخرى قال 30 مليار دولار. وبصرف النظر عن قيمة الاحتياطى فإن خفض الجنيه آت لا محالة، بعد تصريح مديرة صندوق النقد الدولى مؤخرا بأنه لن يتم عرض طلب مصر بالاقتراض على مجلس مديرى الصندوق إلا بعد توافر 3 شروط هى: اقتراض ما بين 5 - 6 مليار دولار، وتحقيق مرونة سعر الصرف أى خفض الجنيه، وخفض دعم المنتجات البترولية. وهكذا يعرف السوق أن هناك خفضا فى قيمة الجنيه مع اختلاف التوقعات عن السعر الرسمى الجديد له، وهنا أقبل الكثيرين من رجال الأعمال خاصة من لا يعطيهم المركزى أية عملات على شراء الدولار قبل ارتفاع سعره المتوقع، كما أقبل آخرون على شرائه للاستفادة بفارق السعر عندما يزيد سعره، كما تمسك من لديهم دولارات به للاستفادة بفارق السعر عندما يزيد، مما أدى بالمجمل إلى زيادة الطلب على الدولار مع نقص عرضه بالسوق. الاحتياجات أكبر من القروض وهنا يتكرر السؤال.. ألا يخشى هؤلاء المتعاملين بالسوق الموازية من أثر الدولارات القادمة على سعر الصرف؟، فها هو الاحتياطى يصل ما بين 21.5 – 22.5 مليار دولار، ومع تنفيذ شروط الصندوق هناك 2.5 مليار من صندوق النقد، يتبعها 1.5 مليار أخرى بعد ستة أشهر من استلام المبلغ الأول، وهناك سندات سيتم طرحها لجلب 3 مليار دولار، إلى جانب مفاوضات مع البنك الدولى للحصول على شريحة ثانية قيمتها 1 مليار دولار، ومع البنك الأفريقى للحصول على نصف مليار دولار أخرى، إلى جانب سعى البنوك لاقتراض دولارات. ورغم كل تلك المليارات المتوقعة فإن السوق يعرف أن هناك تشددا من جانب صندق النقد الدولى للبنك المركزى فى التوسع فى استخدام الاحتياطى من النقد الأجنبى فى سوق الصرف، كما أن هناك فجوة بالعملات الأجنبية بالجهاز المصرفى بلغت أكثر من 12 مليار دولار فى أغسطس الماضى، ومن المهم سدها قبل خفض سعر الصرف حتى لا تتضرر تلك البنوك التى كشفت مراكزها بموافقة المركزى. وهناك أيضا الوارادات السلعية التى يتم تمويلها من قبل المركزى والبنوك لشراء السكر والزيت التموينى والقمح والذرة والأدوية والمنتجات البترولية إلى جانب المواد الخام وقطع الغيار، وهذه الواردات لن تقل عن 5 مليار دولار شهريا، مع الأخذ فى الاعتبار أن قيمتها الحقيقية أكبر مما تعلنه الجمارك، فى ضوء الاتجاه لخفض القيمة تفاديا للجمارك، إلى جانب زيادة أسعار العديد من السلع دوليا وهى الزيادة التى بلغت خلال سبتمبر الماضى 81 % للسكر خلال عام، و28 % للزيوت و24 % لمنتجات الألبان، إلى جانب زيادة سعر البترول عما قدرته الموازنة ليصل إلى 50 دولار للبرميل مقابل 40 دولار بتقريرات الموازنة، والمتوقع زيادته عن ذلك بعد اجتماع أوبك القادم لخفض الإنتاج. أيضا هناك احتياج لسداد فوائد وأقساط الدين الخارجى لا يقل عن 4 مليار دولار، وتلبية احتياجات الشركات الأحنبية لتحويل أرباحها للخارج والتى لا تقل عن 5 مليار دولار، وسياحة المصريين بالخارج وعلاجهم بالخارج والتعليم بالخارج والحج والعمرة والتى لا تقل عن 4 مليار دولار، أيضا المصروفات الحكومية لسفر المسؤلين ومرافقيهم والتدريب والبعثات والسفارات المصرية بالخارج وهذه تحتاج حوالى المليار دولار. وهناك أيضا احتياجات المشروعات القومية من المعدات وهذه لها أولوية، وبالطبع هناك احتياجات للأمن من شراء غاز وخرطوش ومدرعات وغيرها لمواجهة المظاهرات المتوقعة فى أى وقت، وبالإضافة إلى كل ما سبق هناك احتياجات دولارية للأنشطة غير المشروعة لاستيراد المخدرات والسلاح ولتهريب السلع للداخل وغيرها. توقع استمرار السوق الموازية كما يعرف السوق أيضا أنه إذا كان البنك المركزى يتحدث عن إجمالى موارد من النقد الأجنبى بلغت 82 مليار دولار بالعام المالى الأخير، فإن ما يصله منها قليل، مما يحد من إمكانية تدخله بالسوق، فغالب حصيلة التصدير يحتفظ بها المصدرون بالخارج، وغالب تحويلات المصريين بالخارج أصبحت تتم خارج الجهاز المصرفى، وهكذا لا يتبقى للبنك المركزى سوى خمسة موارد للنقد الأجنبى من بين 13 موردا. وهذه الموارد الخمسة هى: دخل قناة السويس وهذه حوالى 5 مليار دولار بالسنة، والمعونات الأجنبية وهذه لم تدر سوى 101.5 مليون دولار فقط بالعام المالى الأخير، والمتحصلات الحكومية وهذه لم تدر سوى 378 مليون دولار بالعام المالى الأخير ، وجزء من دخل الاستثمارات بالخارج رغم أن مجملها بلغ 397 مليون دولار فقط، والمورد الخامس هو الاقتراض الحكومى وليس كل الاقتراض الخارجى. وهكذا يدرك السوق أن المشكلة عميقة وأن كفاءة القائمين على حلها ضعيفة، وأن هناك أولويات غير رشيدة لتوجيه الحصيلة الدولارية، مثلما حدث مع مشروع التفريعة السابعة للقناة وغيرها، ومثلما قالت بلومبرج من أن قرض الصندوق سيتم تضييعه مثلما حدث مع المعونات الخليجية، وإدارك السوق أن غالب الموارد الدولارية الحالية هى قروض وأعباء على الاقتصاد، وأن عودة تدفق الموارد الأساسية للنقد الأجنبى مثل السياحة والاستثمار الأجنبى مرهون بالاستقرار الأمنى والسياسى، وهى أمور يدعى النظام تحققها! لتظل الساحة المصرية مهيأة لاستمرار وجود السوق الموازية للدولار، حتى بعد خفض المركزى للجنيه مرة أخرى ومجيء قرض الصندوق، وقد تهدأ لأسابيع مع الحملات الأمنية العنيفة، لكنها ستعود لتكرر سيناريو ما حدث بعد مارس الماضى.