لا شك أن الفن علامة على العصر، فالأمة المتحضرة الراقية تقدم فنًّا راقيًا وفائقًا في مختلف فروع الفن وأشكاله، ولا يقدح في هذا الحكم ما يراه الناس أحيانًا من بعض الفنون ذات المستوى الهابط التي يرفضها المجتمع، وتتلاشى تحت ضغط الرفض والهبوط، ولا يذكر الناس منها شيئًا بعد رؤيتها أو التعرف إليها. وقد مرت مصر منذ منتصف القرن العشرين بحالة من التدهور في المجالات كافة، وكان فقدان الحرية والكرامة من أبرز العناصر التي حطمت المواهب، وقتلت العقول، وجفَّفت ينابيع الإبداع؛ مما ترتب عليه أنْ صارت التجارة والشطارة من السمات العامة للفنون، وأصبح الإتقان والتجويد عملةً نادرةً واستثنائيةً.
ويبدو أن مصر أمامها زمن ليس قصيرًا كي تستعيد مكانتها الفنية المتقدمة، وتفارق عصر الفن الرخيص الهابط الذي ساد المرحلة السابقة وكان عنوانًا عليها؛ بدليل أن تجار الفن ما زالت لهم اليد الطولى في التبشير بأعمال هابطة لا تمثل ارتقاءً بالوعي، ولا نهوضًا بالفكر، ولا إعلاءً للقيم، فقد رأينا مثلاً قنوات التلفزيون منذ أسابيع تبشرنا بمسلسلات رمضان، ومنها مسلسل عن سيدة قاربت التسعين وكان تعمل بالتمثيل والغناء، وأتاح لها جمالها الجسماني أن تلعب بعقول الرجال والنساء، وأن تتداول المال والشهرة كما لم يفعل غيرها على مر التاريخ، ولكن المشكلة أن هذه السيدة التي تزوجت أكثر من عدد أصابعها من الرجال، لم تبالِ بالأخلاق ولا قيم المجتمع، بل إنها صادمت ما تواضع عليه الناس، وجاءوا بها في بعض البرامج لتعلن بكل جراءة ووقاحة أنها كانت تهاتف بعض أزواجها وهي في أحضان عشاقها!.
ماذا يفيد المجتمع من طرح قصة مثل هذه المرأة التي وظَّفت جسدها "الجميل" في الحياة على طريقتها الخاصة دون أن تضع في حسبانها قيم المجتمع وأخلاقه، ودون أن تتذكر أن هناك إلهًا يحاسب على ما قدمت اليدان؟!
أحسب أن القصة التي تقدم من خلال الشاشة الصغيرة أو الكبيرة لا بد أن تكون ذات غاية اجتماعية أو تربوية أو سياسية أو غير ذلك من الغايات، ولكن تقديم أمثال شخصية هذه المرأة والتطبيع مع علاقاتها المحرمة وسلوكها الأناني الذي ينفي المجتمع والوطن والمثل العليا، يقدم للأجيال- وخاصةً الشباب- نمطًا مستهترًا لا يعبأ بهدف أو غاية من الغايات الكبرى، ويضع أمامهم نموذجًا رديئًا يقلدونه ويحتذونه بعيدًا عن أية غاية اجتماعية أو وطنية أو قومية...
ومن المؤسف أن تجار هذه القصص والأفلام دأبوا على التركيز على مثل هذه الشخصيات البعيدة عن السياق الاجتماعي السليم، بل تمادى بعضهم فجعلوا منها نماذج للبطولة الوطنية والقومية.. كيف؟
تجد أن كتَّاب هذه الأعمال يجعلون المجاهدين أو المناضلين يلوذون بالملهى الليلي الذي تعمل فيه أمثال هذه الشخصيات؛ لتحميهم من الطغاة المستعمرين الطغاة أو المستبدين، أو تشارك معهم في العمليات التي يقومون بها بتخزين السلاح أو كتابة المنشورات أو توصيل الرسائل، وتغسل بذلك دورها في المجال الترفيهي البائس، أو مجال الانحراف المقنَّع.
إن الإلحاح على هذه النوعية من الأعمال المصورة يمثل إفلاسًا فكريًّا وفنيًّا من ناحية، ويؤكد جريمة خلقية من ناحية أخرى، تتمثل في تقديم النماذج الهامشية المنحرفة، وكأن المجتمع خلا من شخصيات إنسانية تعمل وتنتج، وتبذل جهدها وعرقها في سبيل مواصلة الحياة بالطريقة السوية التي تعتمد على الكفاح والجهد والعرق والقيم الإنسانية العليا.
لك أن تسأل مثلاً: ماذا يفيد المشاهد من تقديم أعمال تلحُّ على تناول أماكن الدعارة التي كانت، أو شخصيات مثل بديعة مصابني وشفيقة القبطية وبمبة كشر وامتثال وغيرهن؟ ماذا يمثلن في بناء المجتمع؟ وما أهميتهن التي توجب أن يحتشد لهنَّ كتّاب ومخرجون ومصورون وغيرهم؛ لتقديمهن إلى المجتمع في صورة بطلات مهمات؟
إن الأغلبية الساحقة من الأعمال المصورة- وخاصةً في السينما- تحرص على تقديم النموذج الغربي في السكن والسلوك والعلاقات والعادات والتقاليد، ونادرًا ما يخلو أحد الأفلام من تقديم الخمور والرقص الغربي والشرقي والعلاقات المفتوحة بلا حدود، فضلاً عن الملابس العارية، وكأن 90% من نساء الشعب المصري لا يرتدين الحجاب، وبقية النساء إلا ندرة نادرة يحتشمن إلى حد كبير، يتجاهل تجار الفن الرخيص أن الشعب المصري المسلم يواجه الحياة بصبر، ويعمل في المجالات المختلفة وفق الإمكانات المتاحة دون أن يكون في مجموعه سكيرًا عربيدًا منحلاًّ أو لا يفرق بين الحلال والحرام!.
ويبشرنا تجار الفن الرخيص بمسلسل يذاع في شهر رمضان الفضيل، يتكلم عن فتاة اسمها (..) تمثل نموذجًا لمعظم الأعمال التي ينتجها هؤلاء التجار، وتدور أحداث المسلسل حول (..) الشخصية المحورية في العمل التي تعيش في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة وتملك والدتها المعلمة (..) مقهى شعبيًّا ونفوذًا ترهب جميع سكان الحي، حتى المعلم (..) صاحب محل الفاكهة في الحي، وتاجر المخدرات في الخفاء، في الوقت الذي يحاول كثيرون التقرب منها؛ لتتوالى الأحداث متسارعة بعد وفاة والدها وزواجها من المعلم (..)، فيما تسعى إدارة مكافحة المخدرات للوصول إلى شخصية نافذة تعد المسئولة عن جلب المخدرات من الخارج، حيث تتحول ( ..) إلى شخصية فاعلة في جميع خيوط العمل الدرامي كما تقول الأخبار الصحفية التي تروج للمسلسل المذكور.
هذه النوعية من الأعمال شبعت تناولاً في ألوان مختلفة، ولكن التجار المعنيين بإنتاجها يرون أن هذه نوعية رائجة تجد قبولاً لدى المشاهدين، وخاصةً من المراهقين؛ ما يسهم في المزيد من الدخل الحرام، من خلال بيع المسلسل لقنوات عديدة.. الغاية التجارية الرخيصة تجعل التجار يركِّزون على هذه النوعية وعلى طبقة بعينها، ويساعدهم على ذلك مجموعات الكتاب الذين يدمنون الخمور والحشيش، ويعيشون في أجواء الانحلال والابتذال، وكأنهم يريدون أن يقولوا للناس لسنا وحدنا الذين ندمن الخمر أو الحشيش، أو نعيش الانحلال والابتذال؛ فالمجتمع كله مثلنا، وكأنهم يريدون إدانة المجتمع كله؛ ليبرئوا أنفسهم أمام أنفسهم، ويتناسوا أنهم يفسدون المجتمع، وخاصةً الأجيال الجديدة!.
ماذا يعني أن تجد فيلمًا أو مسلسلاً تصعد بطلته من الحضيض على جثة الشرف والعفة والكرامة والأخلاق والقانون، وتتحول إلى ديناصور من القوة الباغية والجبروت الذي يستبيح الدماء والدين، ويعجب الناس بصعودها ويتعاطفون معها وفقًا لمفاهيم الكاتب التاجر، وبعد أن تستمتع بكل شيء، يأتي القانون متأخرًا أو الموت ليقتص منها بعد أن تثبت صورتها الفاسدة في العقول والأذهان؟
لقد وصل الهبوط في الأعمال المصوَّرة إلى كل شيء، بدءًا من عناوينها إلى لغتها، ولست في حاجة إلى سرد نماذج كثيرة تشير إلى التدنِّي غير المسبوق الذي لم يعرفه المجتمع من قبل.
لقد امتلأت الأفلام والمسلسلات بالشتائم والألفاظ الخارجة واللغة القبيحة التي يقلِّدها النظارة وخاصةً الشباب والأطفال، وهو ما جعل لغة الشارع المصري حادةً وخشنةً وجارحة.
وللأسف فقد كانت لغة الأفلام القديمة أكثر رقيًا وتحضرًا، وكان العاملون بها يسعون دائمًا إلى أن تكون قريبة من الفصحى، ولعل هذا ما أتاح لها الذيوع والانتشار في أرجاء العالم العربي.
إن بعض الناس يتعلَّل بالواقعية ويقدِّم أبشع ما في المجتمع من مشاهد، ولغة وسلوكيات، مع أن الواقعية لا تعني ذلك أبدًا؛ لأنها اختيار، فضلاً عن كونها تشمل أيضًا الجوانب المضيئة والساطعة بين الناس.
ولقد تأملت في حال السادة الذين ينتجون الفن الرخيص، فوجدت معظمهم ينتمي إلى عالم التجارة، وليس عالم الثقافة، والتجارة الحلال ليست عيبًا، ولكنها تجارة حرام، ممزوجة بالتخلف الفكري، وأسأل ماذا نتوقع من تاجر كرشة اغتنى في غفلة من الناس، أو تاجر من وكالة البلح لا يفهم إلا في الخردة وكيفية الكسب المضاعف من التعامل بها، أو تاجر في الملاهي الليلية يعتنق الفكر الماركسي أو الإلحادي، أو تاجر يعتمد على ما تطلبه الحكومة البوليسية لتكافئه بالملايين المدفوعة من دم الفقراء، أو ...
إن الفن الرخيص الذي ساد في مرحلة الاستبداد البوليسي الفاشي؛ كان مطلوبًا لإلهاء الناس، وخاصةً الشباب، وقد طلبوا من التجار أن يضيفوا إلى أعمالهم تقديم صورة مشوهة للمسلم والإسلام، فلا ترى المسلم إلا إرهابيًّا أو دمويًّا أو فصاميًّا، يعاني بين القول والعمل، فضلاً عن كراهيته للحياة والفرح والبهجة.
متى يفكر أهل الفن أن ينتجوا فنًّا راقيًا متحضرًا، يبثُّ روح العمل والجد في أرجاء العالم العربي، ويرقى بالقيم والأخلاق، ويمتِّع الناس متعةً فيها الجمال والصفاء والنقاء، وبناء الروح بناءً قويًّا شامخًا؟!