بطالة وفقر وعناء هكذا ضل المصرى منذ 60 عاما من الاحتلال العسكرى، ففي المجتمعات الرأسمالية عمومًا، يكون الخطاب السائد بين القطاعات الأكثر فقرًا وتضررًا من الممارسات الرأسمالية هو أن “فرص العمل متوفرة لكن أنتم الكسالى” ، أو “فساد وتدهور الأخلاق” – وفقًا لفهمهم – هو سبب ما نعانيه من فقر ومظالم وغلاء ف”كيفما كنتم يُولى عليكم”، و”يستمر الغلاء إن لم تتحجب النساء”، و”العيب فينا فنحن الفاسدون الجشعون الأنانيون”، وبالتالي لا نستحق حياة أفضل، أو أن “المهاجرين” و”المسيحيين” و”المرأة” هم السبب في البطالة التي يعاني منها المجتمع لاستحواذهم على معظم الوظائف، وغيرها من الخطابات التي نسمعها كتفسير يومي لما تعانيه الشعوب والمجتمعات من فقر وقهر، ليس في مصر وحدها. وحسب مقال "الإشتراكيون الثوريون"، الحقيقة أن كل ما يجمع هذه التفسيرات هو أنها تحاول تقديم “فهم” ما لسبب التناقضات التي تخلقها الرأسمالية لكن عبر إلقاء اللوم على الضحية، ولمزيد من الفهم يجب بداية إعادة طرح بعض التناقضات الكامنة في جوهرالنظام الرأسمالي: أولًا: في ظل النظام الرأسمالي يملك مَن لا يعمل (الرأسمالي) أدوات الإنتاج ويراكم فائض القيمة المنهوب من العمال لاستخدامه في إعادة تدوير العملية الإنتاجية وتكديس الأرباح والعيش في ترف داخل تجمعات مغلقة، في المقابل فإن المنتجين الحقيقيين للثروة من العمال والفلاحين لا يملكون شيئًا على لإطلاق سوى قوة عملهم يقدمونها على مذبح الرأسمالي مقابل الفتات ولا يراكمون مقابل هذا سوى الفقر والمرض والاغتراب الكامل عما ينتجونه من قيمة وسلع. ثانيًا: أنه بينما على مدار آلاف السنين قبل الرأسمالية كان معظم البشر يعيشون فقر مدقع ويموتون جوعًا من ندرة الموارد بسبب غياب التكنولوجيا القادرة على مضاعفة الإنتاج بالتوازي مع الزيادة السكانية، ففي النظام الرأسمالي يموت الفقراء جوعًا رغم الوفرة الناتجة عن التقدم التكنولوجي نتيجة للأزمات الدورية المتوالية التي تخلقها آليات النظام الرأسمالي نفسه فتتكدس البضائع داخل المخازن في الوقت الذي يموت فيه الفقراء جوعا نتيجة لنقصها بالخارج. ثالثًا: تخلق الرأسمالية داخل مواقع العمل والإنتاج تأثيران متناقضان على العمال، فهي من ناحية، توحد مصالحهم في مواجهة أصحاب العمل من الرأسماليين وكبار المديرين، نستطيع تسمية ذلك بالمستوى “الرأسي” للصراع (الثوري)، ومن الناحية الأخرى، تخلق الانقسامات بينهم على الفتات من الفرص القليلة المتاحة التي تقدمها الرأسمالية سواء في الوظائف أو البدلات أو الترقيات أو السكن ونستطيع تسميتها المستوى “الأفقي” للصراع. ولأن العلاقات داخل كل المجتمع الرأسمالي هي انعكاس لطبيعة علاقات العمل داخل كل مؤسسة رأسمالية انتقلت كل هذه التناقضات وتأثيراتها من مواقع العمل إلى المجتمع طارحة نفس الأزمات ونفس المستويات من الصراع. ولأنه من النادر أن يتقبل العمال والمضطهدون نصيبهم من العمل المغترب دون مقاومة “رأسية” ظهرت الدولة الحديثة التي يصفها لينين بأنها “نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره وإفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في (الظاهر) فوق المجتمع لتلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود (النظام الرأسمالي) لمصلحة الطبقة الرأسمالية الحاكمة ضد الطبقات الأخرى”. فوظيفة الدولة هي احتكار العنف المنظم لحماية الرأسمالي وضمان عدم تجاوز العمال (وعيًا وفعلًا) نطاق الخطوط الحمراء التي يضعها النظام الرأسمالي عبر منظومة معقدة من القوانين والتشريعات والمؤسسات البيروقراطية والتنفيذية والقضائية الضابطة. كذلك احتكرت هذه الدولة، ومن خلفها الطبقة الرأسمالية الحاكمة، الإعلام والتعليم، وعملت على إعادة صياغة وتوجيه الخطابات التي تنتجها المنظومتان بما لا يتعارض ومصالحها في خلق “وعي زائف” في عقول الطبقات المحكومة والتي ليس لدى تنظيماتها الفقيرة نفس القدرة المادية التي تمكنها من خلق خطاب مضاد؛ ففي المجتمعات “الأفكار السائدة في المجتمع هي أفكار الطبقة السائدة” كما يقول ماركس. “وعي زائف” يستهدف خلق حالة من الضبابية حول أسباب التفاوت الطبقي داخل المجتمع وإلقاء اللوم على الضحية عبر ضرب الفقراء ببعضهم البعض وإرجاع كل الأزمات والتناقضات التي تخلقها الرأسمالية إلى المستوى “الأفقي” من الصراع بمحاولة إقناع العمال والفلاحين أنهم السبب فيما هم فيه من فقر وظلم وبالتالي فهم يستحقونه. قد يبدو هذا للوهلة الأول غريبًا وغير قابل للتحقق لكن عبر الدعاية الرأسمالية المكثفة ينجح النظام في ذلك، فوفقا للدولة الطبقية فإن سبب الفقر وكل المظالم التي يعاني منها المحكومون هو كسل العمال أو الزيادة السكانية أو الفساد الأخلاقي أو الغضب الإلهي أو أميّة الشعب، كما أن الفقر وفقا للدولة الطبقية أيضًا من الممكن أن يكون سببه المهاجرون أو الأقليات الدينية أو الأقليات العرقية أو الأقليات المذهبية أو “المرأة”، وأيضًا من الممكن أن يكون سببه في الحد الأقصى “جشع التجار” أو “فساد الموظفين” إلخ، هكذا دون المساس بجوهر النظام الرأسمالي باعتباره نظامًا “أبديًا” لا يُنتقد ولا يمكن تغييره. كل ذلك يتم عبر بث سيل من الخطابات التجهيلية الزائفة للتعزيز من التبريرات والفلسفات المثالية والأخلاقية التي تبدأ من “الفرد” مثل دعم “التصوف الديني” و”المؤسسات الدينية الرسمية” والدعاية عبر المؤسسات الإعلامية والتعليمية لمناهج “التنمية البشرية” ، أو التركيز على النزعات “العنصرية” و”الطائفية” و”القومية” داخل المجتمعات والإعلاء من النبرة “الوطنية” بين المجتمعات المختلفة وبعضها لتعزيز من المستوى “الأفقي” من الصراع بين عمال المجتمعات المختلفة للصراع على حساب “الرأسي” الثوري. وبالانخراط والتفاعل المستمران للأفراد الواقعين تحت تأثير هذه الخطابات في المجتمع الواقع تحت سلطة الدعاية الرأسمالية المكثفة يصبحون أكثر قدرة على التكيف مع المنظومة وتتعزز لديهم مثل هذه الأفكار المفروضة عليهم فرضًا من أعلي لتصبح هي “القاعدة”، ومع الزمن يصير التفاعل أكثر تعقيدًا وتشتد صلابة هذه الأفكار الخاطئة في الوعي الجمعي وتنعكس جدلًا على وعي الأفراد خالقة عالم زائف مغاير تمامًا للواقع يعيش فيه الفرد متلازمة ستوكهولم التي يقع فيها الضحية في عشق الجلاد، وهكذا. في المقابل تستخدم الدولة كل أدوات القمع البدني والذهني والقانوني لديها لقمع كل محاولات “الثورة” على النظام الرأسمالي وممثليه في السلطة “المستوى الرأسي للصراع” كبديل قابل للتحقق. فليس من مصلحة الرأسمالية الارتفاع بالمستوى الثقافي للعمال والفلاحين والفقراء سوى بالقدر الذي يخدم العملية الإنتاجية فقط، وهذا ما يخلق الفجوة التي نراها اليوم بين “المتعلمين” و”المثقفين” على مستوى العالم، بل وهو أيضًا ما يخلق العداء الكبير من قبل الرأسماليين ومؤسساتهم “الإعلامية” و”التعليمية” للمثقفين اليساريين الراديكاليين من أمثال “نعوم تشومسكي” وغيره ممن يطرحون البديل الثوري “الرأسي”. إذن وعبر هذه الخطابات الزائفة يتم إخراج الأفراد المحكومون من دائرة الفعل الإنساني والمجتمعي واستلابهم فكريًا للتعزيز من استعدادهم لتقبل الأفكار القدرية والاستسلام للحلول التي تقدمها “أقلية” غير منتخبة ديمقراطيًا أو منتخبة وفق عملية صورية يمارس فيها الفرد الديمقراطية لعدة دقائق كل 5 سنوات، أو التسليم بوجود قوى وتأثيرات من خارج التاريخ، وبالتالي الانصياع لآراء ممثلوها على الأرض مما يجعلهم مهيئين تماما، ليس فقط لتقبل السياسات التقشفية للرأسمالية، بل والإجراءات الديكتاتورية التي تصاحبها في الغالب خاصة في الدول النامية. لكن كما كان للتقدم التكنولوجي الهائل القدرة على تنمية الموارد المتاحة بما يتجاوز بكثير عدد السكان على سطح كوكب الأرض، كان له نفس التأثير على الوعي، فالتقدم في وسائل الاتصال الحديثة سهَّل من إمكانية كسر احتكار الطبقات الرأسمالية الحاكمة لأدوات تشكيل الوعي ومنح الطبقة العاملة، وفي القلب منها تنظيماتها الثورية، سلاحًا جديدًا لتفكيك هذه الخطابات الزائفة – والتي تتناقض فعليًا مع الخبرات اليومية للعمال والفلاحين والمهمشين ومعاناتهم التي تتجدد مع كل شروق – وكشف جوهر التناقض الكامن في طبيعة النظام الرأسمالي، والذي يخلق كل هذه الأزمات لتحويل الطبقة العاملة من طبقة واعية “في ذاتها” إلى طبقة “واعية بذاتها” وبدورها في التاريخ تمهيدًا لثورة اجتماعية شاملة على الطبقة الرأسمالية الحاكمة ودولتها الطبقية من يمثلها في السلطة.