منتشرون في الشوارع والميادين ... يعيشون على الأرصفة وبجوار المساجد...ل منهم يحمل قصة وحكاية تلوكها الألسنة وتتوارثها الأجيال ..ورغم ذلك لم يقترب أحد منهم ليحل مشاكلهم ليتركهم صرعي للجهل والفقر والمرض فيهيمون في الطرقات تراهم فى كل أصقاع مصر هائمين، يتخذون من الأرصفة وأسفل الكبارى سكناً لهم، لا يغريهم زخرف الحياة الدنيا، فهم سقطوا من حساب الدنيا والناس وانزووا بذواتهم عنها، اتفق الجميع فيما بينهم على وصمهم بالاختلال العقلى أو «الجنون»، تعددت الأسباب فى هيامهم وتوحدت أشكالهم، فثيابهم رثة، ولحاهم كثيفة غير مهذبة، عيونهم غائرة، وأجسامهم هزيلة، ونفوسهم متعبة، هدها الضياع، يقتاتون من صناديق القمامة، ماتت أحلامهم فى مهدها، فبعد أن كانوا ينعمون بدفء الأسرة والأمان الوظيفى، أصبحوا الآن نسياً منسياً، لا يعلمون أن دولاً أخرى تهتم بالقطط والكلاب وتحث المواطنين على رعايتها وتعاقبهم على التعرض لهم، ولم يسمعوا أيضاً عن إحالة قتلة الكلب ماكس للمحاكمة العاجلة بعد أن أصبحت قضية رأى عام. فى مصر فقط يعانى مثل هؤلاء من الرجال والنساء من التهميش والإقصاء من جانب الحكومة، والنفور من جانب المواطنين؛ لأن «ريحتهم وحشة» أو لأنهم «مجانين» ينبغى الابتعاد عنهم، ويستكثر البعض الآخر من المتحرشين والمسجلين خطر أن يتركوهم وشأنهم، فيقدمون على اغتصاب السيدات المشردات دون رحمة أو إنسانية، فتزداد أمراضهم النفسية والعقلية إلى حدود خطيرة. ورصدت الوطن حالات مزرية من المشردين فى مناطق وسط البلد، والسيدة زينب، والدراسة، وبولاق الدكرور، وبين السرايات، للوقوف على حجم معاناتهم واهمالهم، واستمعت إلى حكايات غريبة وعجيبة ومؤلمة، بعد انتشار أخبار مشرد جسر السويس الذى توفى قبل ساعات قليلة، ورفضت سيارات الإسعاف نقله لأنه مجهول الهوية «عم محمود».. ربع قرن فى شوارع السيدة زينب سيارات لا تتوقف عن السير، شوادر بيع الفوانيس تغطى الأرصفة وواجهات المحال، صناديق القمامة المملوءة عن آخرها تلاصق مسجد السيدة زينب «أم العواجز»، وبالقرب منها يجلس رجل ستينى بجلباب مهترئ، يرفع أطرافه من الأرض بسلك حول خصره، فيما تظهر على وجهه علامات العجز والبؤس، فعيناه حائرتان، وأنفه مصاب بجرح غائر، وشعره لم يلمسه الماء منذ سنوات طويلة، يسير «محمود» بخطوات متثاقلة، ويناديه الباعة المتراصون حول الجامع ب«عم محمود»، الخوف يسيطر على أركانه دائماً، لا يبادل المارة الحديث، وكلما حاول البعض مساعدته هرب مسرعاً إلى الأزقة والحوارى، يدور فى شوارع السيدة زينب وأسفل كوبرى أبوالريش دون هدف أو قصد، يجلس على الأرصفة تارة، وينبش فى أكوام القمامة بالمنطقة بحثاً عن الطعام تارة أخرى، ويكمل بعدها سيره بصمت متفادياً المارة والسيارات بخوف شديد وكأنها تطارده، يواجه مصيراً غامضاً ومفزعاً فى نفس الوقت، لأنه مقطوع من شجرة، لا يهتم به أحد ولا تسأل عنه الحكومة أو ترعاه فى مؤسساتها العلاجية أو مصحاتها النفسية. «عم محمود»الذي تحدثت عنه الوطن لا يخرجه من شروده سوى الطعام، الذى يمنحه له بعض المارة، يأخذه بلهفة ملفتة، يغطيها بطيات ملابسه المتسخة، ويغادر بسرعة لينفرد بوليمته بعيداً عن أعين الناس، الأيام بالنسبة إليه واحدة، الصيف شديد الحرارة مثل الشتاء شديد البرودة، لا يأخذ احتياطاته من الأذى الذى يلاحقه أينما حط أو راح. «فى حاله دايماً ومابيكلمش حد وماحدش يعرفله أهل»، يقول ناصر عبدالعظيم، بائع عصير، مشيراً إلى أنه يوجد بالمنطقة منذ ربع قرن، منذ بداية عمله بالسيدة، فكلما يمر عليه يمنحه كوباً من العصير، مشيراً إلى أنه يختفى أحياناً: «ومنعرفلوش طريق «محمود» الدرَّاسة.. الحياة توقفت عند الحرب العالمية بجوار مستشفى الحسين الجامعى، بطول شارع الأزهر بحى الدراسة، يرقد «محمود» فى ثيابه القديمة البالية، ثياب متسخة جداً، كشعره المعقد المتشابك لقلة الاعتناء به، جلباب قديم أسفله بلوفر، وفوق الجلباب «جاكيت بدلة» من موضة قديمة، تشقق وجهه بفعل الزمن، تغير لون شعره الأبيض إلى الصفرة الملىء بالتراب والاتساخ. يتذكر «محمود» اسمه وسنه بصعوبة، ويغيب عنه تاريخ اليوم، لكنه يستحضر الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين يُستبعد أن يكون قد عاصرهما، يسترجع «محمود» فترة رئاسة جمال عبدالناصر، والرئيس اللاحق له أنور السادات، كما يستعيد بعض الحوادث التى عايشها على عصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك، لكن الشيخ المجذوب الذى يقضى أيامه فى الشارع دون مأوى، لا يدرك أن هؤلاء الرؤساء رحلوا عن السلطة وأن ثمة رئيساً آخر للبلاد. يتساءل «محمود» بشكل جدى إن كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر «عايش أو ميت»، ويُجيب بعينين شاردتين: «محدش عارف هو مات ولا عايش بس هما قتلوه علشان كان جاسوس ومحدش عارف حاجة والاتحاد السوفيتى رمى على مصر قنابل كتير وأنا قاعد هنا فى ميدان الحرب العالمية الثانية» فى إشارة لميدان الحسين، ويعتقد العجوز أن الناس جميعهم سيموتون قريباً. لا يجد «محمود» بيتاً يؤويه سوى الشارع، ولا يقتصر فى الحديث، لكن أحد معارفه من الشارع يمنعه من الحديث مع الغرباء، ويحذر «محمود» قائلاً: «اجرى بسرعة من هنا هتلر جاى»، وبسؤال إحدى البائعات، رفضت ذكر اسمها، «محمود ده الاسم اللى إحنا بناديه بيه، بس إحنا ما نعرفلوش اسم، ومرة نلاقيه نايم على الرصيف ومرة تلاقيه ماشى بيكلم نفسه وشكله كدا مريض نفسى بس مش بيأذى حد وغلبان وطول الوقت موجود هنا وهو عايش والشارع مليان متعرفش حد فيه