بقلم د/ أحمد دراج [email protected] الإنسان جسد وروح يربط بينهما العقل والنفس، وهما يشكلان معا بنية متماسكة ويؤثر كل منها في الآخر ويتأثر به، فالجسد الهزيل تتنازع روحه الوساوس، والجسد بلا روح جثة وجيفة، والروح بلا جسد لا وجود لها في دنيا البشر. ويؤكد علماء النفس والاجتماع حاليا أن الشخصية المصرية بشقيها المادي والمعنوي تعرضت- وما زالت- لضغوط وهجمات متواصلة استهدفت كيانها على المستويين: مستوى الوجود المادي والمستوى الروحي. وقد أدت عمليات التقويض المنظم لبنية الجسد إلى تفشي الأمراض العضوية المستعصية بصورة غير مسبوقة في أي بلد آخر بفضل التعذيب الممنهج للمواطن في أماكن عمله وحركته وفي الأقسام والسجون والمعتقلات. أما دور وزير الزراعة السابق السيد يوسف والي مرزا وأعوانه من فاقدي الضمير والمروءة وأبسط مباديء الإنسانية من تسميم أجسد المواطنين فحدث عنه ولا حرج، فقد أخلص هؤلاء وأمثالهم في تأدية وظيفة مشبوهة ووفق أجندة شيطانية لتدمير صحة الشعب المصري بدقة يحسدهم عليها أعدى أعداء مصر ( ولن يكون تلوث مياه الشرب والسحابة السوداء آخرها ). وفي رأي الخبراء ورجال القانون، لا تقع تبعات تسهيل دخول المبيدات المسرطنة الممنوعة دوليا واستخدامها على نطاق واسع لمدة ربع قرن – تقريبا- على وزير الزراعة وحده، بل تضم معه وعلى مستوى أكبر من المسئولية منظومة الفساد الكبرى بما في ذلك شخصيات نافذة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ويوضع معهم في قفص الاتهام كل من صمت تواطؤا أو عجزا. لقد كان من نتائج هذا الهجوم المتواصل – لعدة عقود- تدمير الشخصية المصرية ماديا على مستوى الجسد( بدني ونفسيا )، وما اعتلال صحة غالبية المواطنين كالأطفال والشباب والشيوخ واستنفاد مدخرات الأسرة المصرية واستدانتها من أجل العلاج من الأمراض الفتاكة- سرطان وفشل كلوي وتليف كبدي وغيرها-إلا دليلا دامغا على أن مصر قد خسرت أهم معركة للتنمية البشرية في العصر الحديث ولعقود قادمة. ويخطيء من يظن أن خسائر مصر في الجانب الروحي كانت أقل فداحة منها على الجانب المادي، ففي الوقت نفسه وبالتوازي مع التدمير المادي لصحة الإنسان المصري كانت هناك مؤسسات أخري داخلية وخارجية تعمل بدأب ملحوظ على كسب معركة تدمير الروح المصرية عبر بوابة ثقافة السلام والعولمة وإفساد القيم بالضغوط الاقتصادية، وكان احتواء المثقف هدفا استراتيجيا للمتربصين في الداخل باعتبار أن المثقف الأصيل هو روح الأمة وضميرها الحي، والتخلص منه أو احتواؤه مطلب السلطة الاستبدادية وأعداء الأمة معا، وقد أدى ذلك مع الوقت إلى تفكيك الشخصية المصرية اجتماعيا. وباكتمال تدمير الروح بعد الجسد تكون بنية المجتمع بعنصريها المادي والمعنوي (الروحي) بنية هشة خاوية يصفر فيها المرض والفساد، وينتقل المستبد من مرحلة التفكيك إلى مرحلة السحق. حقا، لقد أصيبت الشخصية المصرية في مقتل، بعد تهميشها وتفكيكها مرحليا بسبب احتواء النظام لفصائل مختلفة من النخب الثقافية والسياسية، وكان لتواطؤ هذه النخب ومشاركتها في مواكب السلطة وتآمرها على شخصية المواطن أثر لا يمكن إنكاره على انتشار الأوبئة الاجتماعية كالرشوة والمحسوبية والنفاق والتدليس والنصب والتربح من العمل العام، وبهذا تم كنس ما تبقى من القيم النبيلة، وهو ما انعكس على المجتمع المصري بإيجاد هوة عميقة بين آمال الشعب الأصيل في الحرية والكرامة ومواقف النخبة الثقافية المسوقة لعملية الخداع. وبنظرة متفحصة على مسلك تلك النخب وسيرورة حركتها يتبين لنا أنها لم تضع في مقدمة أولوياتها- أبدا- أن الوطن باق وما عداه زائل، وأن مصلحة الوطن أكثر وأعظم أهمية من المنافع الشخصية أيا كان نوعها وحجمها. ومن المؤسف، أنه رغم حجم الكوارث وانتشار الفساد الذي أصاب مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية على مدى يزيد عن ثلاثة عقود ما زال معظم تلك النخب تمارس فعلها الفاضح بسادية غريبة ضد غالبية الشعب بل ضد أنفسهم، وهاهي بعض النخب تتناوب أدوارها في خدمة أجندة السلطة المستبدة رغم فداحة الجرم والنتائج المدمرة على مستقبل البلاد. وكل هذا ليس بعيدا عما تكابده حركات التغيير من تواضع حركة الشارع المأزوم في مواجهة القهر والاستبداد، وبسبب من ذلك أيضا فشلت بعض النخب الحية في علاج الأمراض التي ساهمت فرق من النخب المتواطئة مع السلطة بيدها في اغتيال القيم النبيلة، وأفقد هذا المسلك الانتهازي النخب الأخرى أي قدرة على اكتساب المصداقية لخلق الزخم المساند لمطلبها العادل ومطلب المواطن البسيط في حياة آدمية خالية من الاحتقار والتجويع والبطالة والطواريء. والقضية التي تناولها الأستاذ محمود سلطان في عموده بصحيفة "المصريون" الالكترونية منذ بضعة أسابيع وطيدة الصلة بهذا المرض العضال التي تعرفه السلطة وتستثمره جيدا، وقد كشفت أكثر من مقالة عن عينة من هؤلاء الذين" حملوا الجنازير والسيوف والسكاكين للإجهاز على صحيفة علمتهم معنى الوطنية والجسارة، والصبر والمثابرة في التصدي للفساد والمفسدين " حسب تعبير الكاتب، وهذه مجرد عينة واحدة يتجلى فيها مواقف بعض النخب الانتهازية التي تماهت مع السلطة وزايدت على تيبس أفقها واستبدادها بتحريض أجهزة النظام على تجميد حزب العمل ووقف جريدة الشعب( الناطقة باسمه ) والولوغ في دم كتيبة المناضلين العاملين بها منذ ستة أعوام، وما زالت تلك النخب المتهمة في ولائها لقضية الحرية والديمقراطية تلعب أدوارا خسيسة في نحر أي بادرة مبشرة بانطلاق وتوحد الحركة الوطنية لمقاومة الفساد والاستبداد، وكان من الثمار الآثمة لتسلل تلك النخب إلي صفوف المعارضة استدراج قسم من الحركة الوطنية إلى صالونات صياح الدجاج بدلا من رحابة الشارع. وبنظرة سريعة على الحياة الحزبية والمناخ الثقافي السائد من تحريض وتخوين وتلفيق وتكفير- يتبين لنا أن تلاعب تلك النخب بمشاعر عامة الشعب والتدليس على وعيه قد أوصل البلاد إلى طريق مسدود. والآن، علينا أن ننكأ الجرح ونستخرج القيح بكشف العلة وفضح أسباب استفحال المرض والوسائل الرخيصة التي استخدمتها السلطة والنخب الحاكمة لإفساد معظم النخب السياسية والثقافية قي المجتمع مقابل إغراءات سخية لقيادة كتائب التجريح والشرشحة ضد كل شريف لإطفاء طاقة النور أو لاجتثاث أي نبتة أمل. إن الطريق الذي تسلكه عدة صحف وفي الدرك الأسفل منها صحيفة روز اليوسف التي تحمل لواء البذاءات والصفاقة بالأمر المباشر، وبرامج التجريح والردح والتشويه من نوعية حالة حوار( بالميم ) وصباح الخير يا مصر والبيت بيتك- لخير دليل على صعود نجم هذه الفئة من عديمي الموهبة الذين أدمنوا استمناء المهنية والحرفية والشهرة. إنه ليس أمر على النفس من تغلغل الأمراض الاجتماعية المستعصية في نخب يفترض فيها تحمل المسئولية الأدبية والسياسية, والوقوف بوجه المشاركين في عملية الإفساد المنظم احتراما لذواتهم وإحساسا منهم بأمانة الكلمة حماية لمجتمعهم الذي آواهم وعلمهم. ولذلك ليس غريبا أن نسمع ونري بأم أعيننا اليوم عزوف الجماهير عن المشاركة في هموم وطنها؛ لأنها فقدت ثقتها في كل النخب الثقافية والسياسية الصالح منها والطالح بسبب تلك النخب السابقة التي خانت نفسها ومبادئها وفقدت مصداقيتها، ومن ثم تزعزع يقين الشعب في صدق توجهها بعد أن تحكم بريق الدولار والمنافع الشخصية في حركة أقلامها ونبرات أصواتها. وفي هذا المقال نركز على شريحتين فقط من النخب السياسية والثقافية التي اتخذت موقفا لاأخلاقيا من المجتمع في صراعه الوجودي ضد الاستبداد والطغيان، وتراوح موقفها بين الهروب من والهروب إلى، ثم انتقلت عدوى مواقفها المشينة شيئا فشيئا إلى بعض طبقات الشعب المختلفة بعد أن أصابها اليأس: الشريحة الأولى : فريق الهروب من مواجهة الاستبداد هى الشريحة التي توسم بالانكفاء على الذات، حيث تختار فئة من المقهورين طريقا يؤدي بها إلى الانسحاب من الحياة العامة والتقوقع داخل نفسها بديلا لها عن مجابهة التحديات الداخلية متمثلة في التسلط والظروف المعيشية القاسية والعوامل المحيطة خوفا من الفشل، ويصحبها غالبا إحساس داخلي بقلة الحيلة والعجز. وهو سلوك يؤدي بأصحابه في نهاية الأمر إلى تبخيس قيم الأشياء الحقيقية والزهد في الدنيا وانعدام قيمتهم فيتقبلون مصيرهم صاغرين ويلقون بتبعات موقفهم السلبي على القدر والنصيب، ولا تتوقف سلبيتهم عند هذا الحد، بل تتجاوزه إلى تقديم النصح للغير كي يتقبلوا إيهام أنفسهم بذات المصير وأنه لافائدة. إن شريحة المنكفئين على ذواتهم لا يكتفون بالتهرب من المشاركة في أي نشاط عام، بل يقفون موقف العاجز أحيانا أو الشامت في الأحداث التي تدور حول أرزاقهم وأعناقهم فلا يستجيبون لأي نداء ولا يساعدون في أي عمل قد يرتد عليهم منه بعض الخير أو معظمه، وهذه الشريحة تشكل الغالبية العظمي من الشعب. الشريحة الثانية: فريق الهروب إلى أحضان المستبد يطلق على هذا الفريق المتماهون بالسلطة، وينقسم إلى جناحين هما : الجناح الانتهازي المشتاق الذي حسم خياره مع السلطة منذ أمد بعيد نتيجة افتقاده لعوامل الصعود الطبيعي في سلم المجتمعات الفتية بالجهد والعرق، ونماذجه كثيرة في الصحافة الحكومية وجوقة المنافقين، وعلى رأسهم ذلك المنظر الكبير للحزب ولجنة سياساته ومصنف مصطلاحاته ومروج فلسفة العبث الفكرى. والجناح الثاني هو فريق البندول المتردد من النخب الثقافية والسياسية الذين غيروا ولاآتهم من النقيض للنقيض بين عشية وضحاها وانتقلوا من النضال الحقيقي قديما إلى الاسترزاق والتجارة بالمواقف بعد أن حسموا خيارهم في التماهي بالمتسلط رغبة في رغد العيش أو احتماء من آلام القهر النفسي. وفي تصوري أنه عندما يتمكن القهر من بعض النخب وتعجز عن تغيير علاقتها بالمتسلط تتنكر لمشكلتها الذاتية ومن المشاكل الجماعية للمجتمع وتتمسك تلك النخب بالمظاهر الخادعة، وتتمثل الوجاهة ظنا منها أنها قد نالت التحرر، وهي فئة ذات حركة بندولية بين السلطة والمعارضة، وتجدها في كل الوظائف في مؤسسات وأجهزة الإدارة والمؤسسات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني من كتاب وصحفيين ومثقفين وغيرهم من أساتذة الجامعات والمحامين وغيرهم. إن المتماهين بالظالم أو المعتدي هم أقوي عوامل مقاومة التحرر الوطني، وهم أيضا ألد أعداء التغيير الاجتماعي السلمي، فعندما يتخذ المتماهي قيم المتسلط الظالم قدوة ونموذجا هاديا له ويتبنى مثله العليا في حركاته وسكناته تسقط المباديء والقيم والوطن في جب بلا قرار . ونماذج التماهي بالسلطة ملء السمع والبصر اليوم ويكفيك مطالعة آراء هذه النخبة من المثقفين الذين يتسولون على موائد السلطة- صباح مساء -ويهللون لرأي وزير الثقافة المتطاول على الحجاب لتكتشف حجم الكارثة الأخلاقية التي تضرب بجذورها في ضمير ووعي هؤلاء الذين يسمون نخبة وهم ليسوا إلا نكبة. ومن تلك النماذج أيضا ذلك المناضل اليساري السابق الذي كتب في صحيفة الأهرام يوم السبت 30/10 أن غرس الديمقراطية في العالم الثالث أشبه بغرس زهرة في الصحراء القاحلة، وأن استيراد الديمقراطية الغربية مثل استيراد البيتزا أمر لا يناسب مصر، وهذا أمر عجاب لا يصدر إلا عن بوق مستهلك أو كاهن شمولى متقاعد. وأسئلتي لا أوجهها إليه، بل أوجهها إلى كوادر الأحزاب الثلاثة المتحالفة معا، كيف يبحث أي حزب من أحزابكم عن اكتساب تأييد الجماهير والشارع يرى الحليف الاستراتيجي ( د/ رفعت السعيد ) وهو يشبه المجتمع المصري بالصحراء الجرداء غير الصالحة لنمو الديمقراطية العدالة والحرية ؟ وما الفرق الفعلي إذن بين الدكتور رفعت وبين منظري العبث الفكري في الحزب الوطني ولجنة سياساته ؟ وما رأي قوي اليسار المصري الشريف- الذين نجلهم- فيمن يسلم قياده لمن يتبنى خيار لجنة السياسات نهارا ويهذي بعكسها ليلا ؟ وما رأي المدافعين في المناضل البندولي الذي يؤيد الاستبداد المحلى من النظام الذي يستورد كل شيء من الأفكار للأيدلوجيات ونظم الحكم والدستور والقوانين ومنظومة التعليم ؟ من فضلك يا دكتور رفعت ارحمنا ووحد موجة الإرسال السياسي في الخفاء والعلن تجاه خيار واحد فإما الشعب والقوى السياسية المعارضة وإما الحزب الوطني ولجنة سياساته!!!. فمصر الآن كالمشرف على الغرق وهي في أمس الحاجة لجهود جميع أبنائها وإخلاصهم، فهل يمكن أن يعود الشرفاء من هذه النخب الثقافية والسياسية إلى الاصطفاف السياسي لقوى المعارضة لإعادة بناء مصر على أسس من العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، ألم يحن الوقت بعد أن يتخلى من لديهم ذرة من الأمانة والأخلاق عن النبش في أنقاض مصر للحصول على أنصبتهم من القوالب بعد هدمها على رؤوس الجميع!!! وبعد هذا الرجاء الصادق من للنخب التي انحرفت عن جادة الصواب، فهل نطمح في تجاوز مرحلة الخطر قبل أن يتلقفنا طوفان الفوضى أو ينحرنا جميعا كهنة رأسمالية الجشع وجلادوها المستبدون على أعتاب عصر العولمة والقهر ؟؟!!!