أخيرا ، وبعد حوارات مكثفة ، ووساطات متوالية ، أعلنت حركتا فتح وحماس اتفاقهما على تشكيل حكومة "وحدة وطنية " ملتزمة بوثيقة "الوفاق الوطني" ، وانهما في سبيل تسمية أعضائها وتوزيع المناصب فيما بينهم . والايجابية الوحيدة فيما أعلن عنه أنه يؤشر لتغلب إرادة الحوار على نوازع الصدام الفصائلي ومتوالية الاشتباكات الدامية التي واكبته ، ذلك لأن الاتفاق على تشكيل "حكومة" محكومة باتفاق اوسلو ليس بالإنجاز الوطني كما يتبادر إلى أذهان الكثيرين . لأن "السلطة التي اقيمت بموجب اتفاق القاهرة الثاني الموقع في 4/5/1994 لتولي المهام التنفيذية والتشريعية في المنطقتين (أ و ب) من الضفة والقطاع المحتلين ، ليست عمليا سوى هيئة لإدارة شؤون المواطنين في أرض ناقصة السيادة تعفي سلطة الاحتلال من المسؤولية بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 . وكثيرون هم الذين طالبوا بإسقاط السلطة مقابل تطوير المقاومة ، بأشكالها المختلفة ، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لإنهاء الاحتلال ، والتقدم على الطريق الطويل للتحرير والعودة .
ويذكر أن حماس كانت قد عرضت على فتح وبقية الفصائل تشكيل حكومة " وحدة وطنية" ، مباشرة عقب فوزها بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في 25/1/2006 غير أن أحدا لم يستجب لطلبها . مما يحمل على الظن بأنه كان هناك قرار رفض " فيتو" على مشاركة حماس في الحكومة والعمل على إجهاض نجاحها . فأركان السلطة من قادة فتح لم يتقبلوا قرار شعبهم بما يفرضه الالتزام بالديمقراطية ، ولم يعملوا مع هيئات المجتمع المدني القائمة لحماية التجربة الديمقراطية الناشئة ، أو اغتنموا فرصة نجاح حماس لتشكيل جبهة وطنية تسعى لتحرير الإرادة الوطنية من التزامات اوسلو التي لم تحترمها إسرائيل . وبدلا من ذلك كله اشتبكوا في جدل محتدم مع حماس ومناصريها ، مطالبينها بالاعتراف بإسرائيل ، والالتزام باتفاق اوسلو وتوابعه ، والتوقف عن مقاومة العدو تحت الشعار المضلل " نبذ العنف" . ولان حماس رفضت التفريط بثوابتها أعلنت حرب التجويع على الصامدين في الأرض المحتلة ، بمشاركة معظم الأنظمة العربية فضلا عن فريق اوسلو الفلسطيني .
وقد اشارت بعض المصادر إلى أن الرئيس محمود عباس فتح حسابا مصرفيا باسمه الشخصي ، أودعت فيه معظم المعونات الواردة لصالح السلطة ، وأنه في أواخر أيلول / سبتمبر الماضي كان لديه ما يكفي لدفع ما تبقى من الرواتب غير المدفوعة آنذاك . وفي لقاء صحفي مع فاروق القدومي في 13 نوفمبر / تشرين ثاني الجاري ، ورد قوله "إن بعض المسؤولين الفلسطينيين يخبئون الأموال الخاصة بالرواتب لتعميق الأزمة التي يعانيها الفلسطينيون " . كما طالب بالإفراج عن تلك الأموال. وفي هذا ما يضفي المصداقية على ما أشارت إليه تلك المصادر .
وبعد كل ذلك الإصرار من الرئيس عباس وفريق اوسلو على تلبية اشتراطات ما يسمى " المجتمع الدولي" ، وتلك الممانعة من قيادة حماس ، في الداخل والخارج ، على رفض المطالب الثلاثة لتناقضها مع الثوابت الوطنية ، ما الذي جرى حتى تم الاتفاق ؟ هل يعود ذلك إلى إدراك مشترك باستحالة إقصاء الآخر والقدرة بالجهد الذاتي على تقديم الاستجابة الفاعلة للتحديات الداخلية والخارجية ؟ أم للعجز عن استلاب إرادة الصامدين في الضفة والقطاع المحتلين ؟ أم هو ادارك الرئيس عباس وفريقه أن ما اعتبروه انحسارا في شعبية حماس بسبب معاناة الصامدين لم يصب في قناة فتح ، كما اعترف بذلك نبيل عمرو في لقاء مع فضائية الجزيرة في الأسبوع الماضي ؟ أم أن حماس أعطت الاولوية لرفع معاناة الصامدين بعد ان قدمت تجربة مشرفة في الحكم ؟ أم صدرت تعليمات للتعايش مع حماس لحين التمكن من تحقيق ما تعذر تحقيقه ؟ وأليس في تعزيز قدرات السلطة القتالية بموافقة اسرائيلية وتعاون رسمي عربي مؤشر خطر ؟!! .
وعليه فالاتفاق على تشكيل حكومة "وحدة وطنية " ملتزمة بوثيقة " الوفاق الوطني ، على أهميته من حيث وضع حد لجدل وصراعات القابعين تحت الاحتلال ، لا يعتبر إنجازا وطنيا إلا بقدر التزام الحكومة المقبلة بالثوابت القومية ، والتقدم الذي تحققه على طريق التحرر من التزامات اوسلو ، وفك ارتهان القرار الوطني للتمويل الخارجي ، وقدرتها على الاحتفاظ بحرية الإرادة واستقلال القرار ، وتوظيفها كل الامكانات المتاحة ، وتلك المستطاع توفيرها من المصادر العربية ، في تطوير القدرات العلمية والتقنية لعشرات آلاف الشباب والصبايا ، بحيث تتوفر القاعدة البشرية لتعظيم القدرات الإنتاجية للفرد والمجتمع في الأرض المحتلة ، مما يعزز القدرة على فك الارتباط التبعي بالاقتصاد الصهيوني .
وفي الآفاق الدولية والإقليمية ما يوفر أوسع الفرص لتحقيق إنجازات ملموسة ، إن أحسنت القوى الوطنية والقومية والإسلامية العربية ، خاصة الفلسطينية منها ، قراءة معطيات الواقع والتصرف في ضوء متغيراته . ففي الولاياتالمتحدة كان للعجز عن قهر إرادة المقاومة العراقية أثره في انتخابات الكونجرس النصفية ، وتأثيره في استقالة رامسفيلد ، وتصاعد نقد استراتيجية "الحرب على الإرهاب" . ما يؤشر لقدرة الشعب العربي على الدفع باتجاه بداية نهاية التغول الأمريكي الذي أرسى قواعده المحافظون الجدد . فيما يوحي صعود اليسار في الأمريكتين الجنوبية والوسطى إلى بداية استعادة عالم الجنوب فعاليته ، وبالتبعية نهوض حركة عدم الانحياز ، الأمر الذي سوف يحفز استنهاض الحراك السياسي – الاجتماعي العربي . كما في احتدام نزاعات النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية ، على خلفية الفشل في مواجهة المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله ، وكذلك في عجز الإرهاب الصهيوني عن قهر إرادة نساء بيت حانون ، ما يدل على أن المقاومة العربية غدت قادرة على لجم العربدة الصهيونية . فضلا عن وضوح افتقاد إسرائيل القدرة على أداء وظيفتها كأداة استعمارية في المشرق العربي ، بعد خسارتها قوتها الردعية . بل واحتمائها من صواريخ حزب الله بقوات "اليونيفيل" . وبالنتيجة يمكن القول وبكثير من الثقة إن حرب تموز / يوليو 2006 وضعت كلا من إسرائيل والعرب على عتبة مرحلة هي النقيض تماما لما أحدثته "حرب الأيام الستة" سنة 1967 .
ويعلمنا التاريخ أن ليس أخطر من شعور قوى الاستعمار والاستبداد بافتقادها قدرتها الردعية . إذ تندفع إلى تصعيد عدوانها ، إن لم تستطع استعادة فعاليتها بالوسائل السياسية . وضمن هذا السياق يقع تصعيد إرهاب الدولة الصهيوني في القطاع والضفة المحتلين ، وكذلك الدعوة لمؤتمر دولي والعودة للمفاوضات الماراثونية ، لتأثيرها النفسي في اشاعة اوهام التسوية القريبة ، فيما يسعى التحالف الأمريكي – الصهيوني وأدواته الإقليمية لإجهاض مكاسب قوى المقاومة ، وتمكين الادارة الامريكية واداتها الصهيونية من استعادة المبادرة الاستراتيجية في المنطقة . واعادة الحياة لثقافة الهزيمة التي زلزل قواعدها صعود المقاومة وانتصاراتها وهذا هو التحدي الذي يواجه حماس ومن هم حريصون على انتشال فتح من التردي الذي أوقعه بها فريق اوسلو.